غرامشي: حضور الأب الغائب
يقترن اسم الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي بكتابه الأشهر «دفاتر السجن» وأفكاره المتعلقة بأساليب الهيمنة الثقافية ضمن المجتمع الرأسمالي. وعلى الرغم من شهرة اسمه، كثيراً ما يتعرف القراء على أفكاره بعد أن تم تداولها دون اللجوء إلى مصادرها الأصلية.
هذا ما يشكل ربما إحدى خصوصيات كتاب «شجرة القنفذ والرسائل الجديدة»، فهو مؤلف يتضمن رسائل كتبها غرامشي بنفسه لولديه وزوجته وأقربائه خلال فترة اعتقاله من قبل النظام الفاشي في إيطاليا، صدرت بترجمتها العربية عن دار التكوين عام 2016. والكتاب يضم إلى جانب الرسائل، سيرة مُفصّلة عن حياة غرامشي وعمله السياسي وتفاصيل اعتقاله بأمر من موسوليني، بالإضافة إلى مجموعة من الصور وقصيدة مهداة له كتبها بيير باولو بازوليني. تختلف هذه الرسائل في أطوالها وموضوعاتها، وتتوزع على فترات زمنية مختلفة من مرحلة اعتقال غرامشي التي امتدت بين 1927-1937. وعلى اعتبار أن إدارة السجن كانت قد فرضت عليه ألَّا يكتب أكثر من رسالة واحدة كل أسبوعين، حاول غرامشي الاستفادة من هذا الندرة بأفضل صورة ممكنة.
ربما تكون أبرز الرسائل في هذا الكتاب تلك التي كتبها غرامشي لولديه دليو وجوليانو. لأنها تعبّر عن الطريقة التي يحاول فيها غرامشي تعويض غيابه القسري عن حياة ابنيه، بحيث تبدو معظم تلك الرسائل جسراً بين طفولته هو وطفولتهما، فهو في الغالب ينطلق من نقاط الاهتمام التي قد يظنها مشتركة معهما لكي يحفزهما ويحافظ على انتباههما. فيحدثهما عن طرقه في اصطياد الطيور والأسماك حينما كان في سنِّهما، أو يحكي لهما انطباعاته عن كتب قرأها وهو صغير، ويعلّق على الرسوم التي يرسلانها له محللاً ما أعجبه فيها، بالرغم من فائض الحب الذي تنضح به الرسائل، لكن غرامشي يعامل طفليه كأنداد؛ فهو يطرح عليهما الأسئلة، ويحاول في رسالة بعد أخرى تعميق النقاش معهما ورفع سويته، كما لو أنه يشحذ مهارتهما في الجدل والتعبير عن الأفكار. هكذا نراه يعلِّق تارة على رسالة مقتضبة ومتسرعة من أحد ولديه قائلاً بأن الوقت قد حان كي يدِّرب الصغير نفسه على الجلوس إلى طاولة المكتب كي يدِّون أفكاره برويَّة ويفكر بينما يكتب.
لكن المؤثر في الرسائل حقاً أنّ غرامشي يولي أفكار ومشاعر طفليه- العميقة منها والطفولية- ذات الاهتمام، فنراه على امتداد عدة رسائل منشغلاً ببغاء ابنه ويحاول معه بحث السبب الذي يجعل ريشاته تتساقط، فهو لا ينفك يكرر بكل طريقة ممكنة أنّ كل تفصيل في حياة أبنائهِ يعنيه، بحيث يحوّل أية إشارة عابرة منهما إلى مدخل للنفاذ إلى أفكارهما ومشاعرهما. فيقول في إحدى الرسائل: «إن أردت أن تسدي لي معروفاً عليك أن تصف لي نهاراً كاملاً من نهاراتك». وينهي رسالة أخرى بالقول: «كل أمر يتعلق بك هو بالنسبة إلي شيءٌ في غاية الأهمية، ويعنيني أكثر مما تتصور».
تحمل رسائل غرامشي للقرّاء نوعاً من المفاجأة، لأنها تغاير في الظاهر الصورة النمطية عن المناضل السياسي عموماً، واليساري بصورة خاصة، الذي يضحِّي بانتمائهِ الأسري الضيّق لصالح انتماء أوسع وأشمل، كما لو أنَّ الاثنين مساران متناقضان. بحيث يكون من الصعب تخيّل«رمز» كغرامشي مشغولاً بتخيلات ابنه حول فيلٍ مدهونٍ بالفازلين يمشي على قدميه الخلفيتين. لكن هذا بالضبط ما يجعل المراسلات فريدة، لأنها تعمّق صورة الرمز، وتضفي عليها أبعاداً أكثر تعقيداً وغنى، وتحديداً فيما يتعلق بالجسر بين الشأن الخاص المتمثل بيوميات الأسرة، وبين الحيز العام لمناضل اختار المشي قدماً في العمل السياسي، ودفع أثمانه التي كان مدركاً لها مسبقاً، فنراه يكتب لأخته: «أنا أرى الأمر– الاعتقال- على أنه فصلٌ من فصول النضال السياسي الذي ابتدأت معركته وستستمر ليس فقط في إيطاليا بل في كل أصقاع العالم لزمنٍ لا يعرف أمده أحد». فالواقع أن غرامشي يناضل من أجل المجتمع ككل، ويرى أسرته جزءاً من هذا المجتمع، فيكون بذلك نضاله من أجلها أيضاً. فالفيل يصبح من وجهة نظره مدخلاً لمساعدة ابنه على فهم التاريخ والتطور فنراه يكتب: «تقول إن التاريخ يعجبك ولهذا وصلنا إلى خرطوم الفيل»، ويضيف في موضعٍ آخر من ذات الرسالة: «في فرضيتك ثمة خلعٌ فادحٌ للصفات البشرية على الأشياء الأخرى، لماذا ينبغي على الفيل أن يرتقي على شاكلة إنسان؟». وفي رسالة مؤثرة أخرى لا تتجاوز عدة أسطر- على اعتبار أن صحة غرامشي المعتلة كانت تمنعه أحياناً من الكتابة- يعلق على حب ابنه للتاريخ فيكتب: «أظن أن التاريخ يروقك، مثلما كان يروقني عندما كنت في سنك، ذلك أنه مُتصلٌ بالبشر الأحياء ولا بدَّ لكل ما هو متصلٌ بالبشر، بأكبر قدرٍ من البشر- كل البشر في العالم طالما أنهم يتحدون معاً لبناء مجتمع ويكافحون ويرتقون بأنفسهم- أن يروقك أكثر من أي شيء آخر، أليس كذلك؟».
تعيدنا رسائل غرامشي، رغم بساطتها وخفتها الظاهرية، إلى الزمن الذي كانت فيه الأدوار بين الأب والابن واضحة والصلة بينهما كذلك، وهو أمرٌ يًفتقد أكثر فأكثر في يومنا هذا مع مناخ الاغتراب والتفكك الذي يسود العلاقات الأسرية، بحيث تكون محاولات غرامشي للالتفاف على غيابه بخلق شكل آخر من الحضور مؤثرٍ حقاً. إلى جانب ذلك، تُظهر الرسائل نوعاً من الاتِّساق بين الأفكار والمبادئ التي دافع عنها غرامشي، وتحديداً فيما يتعلق بدور الثقافة كجزء من البنية الفوقية في الصراع السياسي، وبين الاهتمام الشخصي بالبناء المعرفي والفكري لطفليه اللذين يشكلان من وجه نظره جزءاً من الجيل الذي سيصنع التغيير. فغرامشي في زنزانته كان محتاجاً لكمِّ الحب والدفء الذي تبثه فيه الرسائل كي يكمل نضاله، ولذلك فهو لم يكتب فقط كرّاسات السجن، بل كتب أيضاً عن ببغاءات تفقد ريشها، وفيلة مدهونة بالفازلين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 954