«أخطر ما يتهددنا... إيماننا برأي الغرب فينا»
قبل عامين من رحيله، وفي الأول من آب العام 2002 تحديداً، أجرت «قاسيون» حواراً مع الكاتب والشاعر والمسرحي السوري، ممدوح عدوان، الذي امتد نشاطه إلى مجالات تبدأ بالشعر، ولم تنتهِ عند حدود الرواية، والمسرح، والصحافة، والدراسات الأدبية والنقدية والمتخصصة، والترجمة، والدراما التلفزيونية. لأهمية اللقاء وراهنية العديد من الأفكار الواردة فيه، تعيد «قاسيون» نشر مقتطفاتٍ منه.
بعد صدور رواية أعدائي، وديوانك الشعري الأخير، ما الذي سيأتي؟
أنهيت كتابة مسلسل «أبو الطيب المتنبي» دراما تاريخية عن قصة شاعر الخيل والليل برؤية معاصرة.
هل تريد قول شيء ما من خلال معالجتك الدرامية لشخصية أبي الطيب المتنبي؟
طبعاً... بالتأكيد لابد أن أقول شيئاً، وما أود قوله أقدمه بشكل درامي من خلال الشخصية التي تكون محور العمل الذي أعمل عليه... وإذا كنت لا أنوي قول شيء فلماذا أكتب شيئاً مكتوباً وأقدم شخصاً معروفاً...
اللغة الدرامية العالية التي تقدمها في أعمالك تُعمِل في داخلها الكثير من الرموز والإشارات، كما أنك تقدم للمتفرج نوعاً جديداً غير الذي اعتاد عليه. فبعد تدميرك للبطل في الزير سالم وتقديمه كإنسان بالدرجة الأولى ها أنت في عملك الجديد تقترب من بطل آخر في مخيلة الناس، أَلَا تخشى ألاّ تصل هذه الإشارات إلى المتفرج العادي؟
الناس في بلادنا اعتادت على حل الرموز... وحتى في الساتلايت يقوم البعض بفك التشفير عن بعض القنوات الفضائية المشفرة... عندنا الناس أذكياء... لماذا نفترض دائماً أنه يجب أن تكون المعاملة معهم دائماً سطحية ومبنية على الوجبات السريعة، دون تقديم أي بعد ثقافي في أيّ من الأعمال الدرامية التلفزيونية؟ أنا أرى أنه من الغباء التعامل معهم على أنهم أغبياء، إنني أقدم بلغة الناس ولغة الناس يفهمها الناس... لغتي خاصة ولكنها لغة ناسي وأهلي... والكل الحمد لله يفهمها، والدليل أعتقد أن رسائلي قد وصلت.. وأن الجمهور استلمها وآخرون امتعضوا منها.
هل كان لتوجهك المبكر للعمل في المسلسلات والدراما التلفزيونية لثقتك بأن التلفزيون هو المجال الوحيد لتقديم الثقافة والفن مباشرة إلى الناس؟ وماذا حلّ باعتقادك بالمجالات الأخرى؟!
كل فنٍ جيدٍ يكون قريباً من الناس، كل ثقافةٍ جيدةٍ يتقبلها الناس، والرواية عندما تكون جيدة تكون قريبة للناس، والسينما الجيدة، والشعر الجيد، والمسرح الجيد، والبحث الجيد، وكل ما هو جيد يلقى قبولاً ويدخل مباشرة إلى قلوب الناس، ولكن سبب استحواذ التلفزيون على الاتصال المباشر مع الناس هو وجوده في كل بيت وتنوعه... وقلة كلفته... بينما المجالات الأخرى باتت أكثر صعوبة، لدينا للأسف أزمة قراءة أساسها أزمة الكتاب والسبب اقتصادي... فرغم الحسومات على أسعار الكتب في معارض الكتاب الكثيرة، ما زال من الصعب على المواطن اقتناء أكثر من كتاب كل شهر، لأن متوسط دخل الفرد خمسة آلاف ليرة، وإذا أراد شراء عشرة كتب لدفع راتبه بالكامل...
ألا يمكن نشر الثقافة إلّا عبر الكتاب الذي تقول أنه أصبح بعيد المنال بسبب أزمة القراءة وأزمة الكتاب التي نعيشها؟ وما هي الوسيلة الأخرى غير التلفزيون الذي يقدم إلى جانب الثقافة كثيراً من التفاهات والتشوهات؟
نعم، هنالك وسائل أخرى الصحف، والإذاعة، وغيرها من المنابر، فلو قدمت الإذاعة كل يوم المتنبي ولمدة خمس دقائق لأصبح المتنبي شاعراً شعبياً ولحفظ الناس أشعاره... ولو قُدِّم برنامج يومي عن شكسبير وأعماله لأصبح فناناً شعبياً مثله... لذلك من الضروري أن تقدم المنابر الثقافية خدمات ثقافية، ولكن للأسف ما تقدمه إذاعاتنا العربية وفضائياتنا خدمات ترفيهية أكثر منها ثقافية.
إذاً ما هو دور المثقف وأين تكمن فاعليته؟
دور المثقفين يكون ممكناً إذا وجدت مراكز تستقطبهم... ونحن ضمن هذه الشروط بحاجة لنشاطٍ ثقافي منظم استثنائي تقوم به دور الثقافة الحكومية والخاصة، ولذلك فعلى اتحاد الكُتّاب ووزارة الثقافة والمنظمات أن تقوم بدورها الثقافي والمعرفي بشكل صحيح، وأن يكون من أولوياتها إقامة التظاهرات الثقافية التي تستقطب مجموعات المثقفين والمفكّرين العرب... وتقدمهم للناس وتعرفهم بهم وبإنتاجهم.
ويكون دور المثقف هنا فعّالاً إذا تجاوب مع هذه المبادرات واستعد لتلبية تلك الدعوات، والمشاركة في تلك النشاطات، ولكن حين يرمي المثقفون الكرة بمرمى الآخرين يكون السبب أن الآخرين لم يستوعبوهم، أو لأن الرقابة والعجز والشلل المصاب به هؤلاء الأخرون هو السبب.
كثر الحديث عن الأدب والهوية الوطنية... فأين ترى أهمية هذه الهوية، ودورها في حماية الثقافة؟
أهمية أن تكون لنا هوية ثقافية نابعة من قدرة هذه الهوية على تحقيق الثقافة دون الوقوع في فخ الاستلاب، وقدرة هذه الثقافة على التأثير والتأثر. والذي يتهدد الهوية الوطنية في الأدب هو عزل الأدب عن جمهوره، أو الكف عن تجسيد هموم وهواجس هذا الجمهور، وأقصد جمهور الأديب أي مواطنيه، والذي يحصل أن أكثرنا يحاول التشبه بالآخر، هذا التشبّه يقود إلى الانبهار بنتاجات هذا الآخر في مقابل احتقار الذات... وهذا هو فخ العولمة الثقافية.
ومن التجارب الرائدة في مواجهة التيارات الثقافية الغربية المسيطرة تجربة «السود» في العالم... إذ ناضل «السود» إبداعياً لترسيخ هوية وحضور مميزين حتى وصل الأمر إلى حدود ترسيخ «علم جمال أَسْوَد» بموازاة «الأبيض»، بعد أن كان أخطر ما يتهدد «الأَسْوَد» هو إيمانه برأي «الأبيض». ونحن في عصر العولمة أخطر ما يتهددنا هو إيماننا برأي الغرب فينا.