عن التغريب الثقافي.. ورد الإنسان إلى ذاته
إن البنى الاجتماعية التابعة (الأطراف) اقتصادياً للإمبريالية دخلت في عصر الرأسمالية، ولكن متمايزة عن البنى الإمبريالية في المركز، فهي لم تقطع مع علاقات الإقطاع والإنتاج الصغير كما حصل في دول المركز الرأسمالي، ولكن ترسخت فيها علاقات التبعية (الرأسمالية المكبوحة التوسع) في تعايش وسيطرة تجاه علاقات الإنتاج السابقة، من خلال التجارة والاستثمار المالي الرّيعي والنهب وحتى التصنيع المحدود المرتبط برأس المال الأجنبي غالباً ويتمحور بغالبيته في مجال المواد الخام والتصنيع البسيط، والذي استفاض الشهيد مهدي عامل في تحليله في كتابه حول بنية الإنتاج الكولونيالي.
وحتى تلك الدول التي قامت فيها تحولات بورجوازية وطنية لم تقطع مع التبعية للغرب خصوصاً، بسبب طبيعتها البورجوازية التي تعود فتنقلب على منجزاتها بالذات، كونها لا تستكمل ثورتها الاجتماعية لعدم قدرتها على الانفكاك عن علاقات التبعية بالإمبريالية بشكل كامل، والتي هي إرساء أسس اقتصاد اشتراكي مستقل كونه يرتد عليها كقوى بورجوازية الطابع.
عدم القطع والبنية الفوقية
عدم القطع هذا مع البنى الاجتماعية السابقة للرأسمالية من علاقات الإنتاج البضاعي الصغير والفلاحي والإقطاعي في مقابل إرساء علاقات سوق رأسمالية وأسس اقتصاد العمل المأجور المحدود بقطاعات مالية وخدمية لها الغلبة (كلبنان مثلاً) ووجود اقتصاد وطني إلى حد ما غير قابل للتوسع والتطور(كسورية مثلاً) مع ما يمثله ذلك على مستوى البنية التحتية من المجتمع، كان له الأثر على مستوى البنية الفوقية كالوعي والأخلاق والقيم والسياسة وشكل الدولة والشخصية الفردية والبنية النفسية وغيرها، والتي لا تتشابه بالانتقال الذي حصل في الغرب الرأسمالي. عند الثورة البورجوازية في الغرب قام عصر التنوير بالقطع مع مجمل الموروث الإقطاعي الغيبي إلى حد ما واستبدله بوعي تتقدمه العلوم من جهة، والتي انتعشت بسبب عصر التصنيع والآلة، وتتقدمه من جهة مفاهيم الحرية والحقوق الفردية التي تتطلبها علاقات الإنتاج الرأسمالية، المرتكزة على الملكية الفردية والحرية التي هي حرية السوق والتجارة، وجعلها مركز كل “فضيلة”، إضافة إلى دور الدولة في تأمين الخدمات الاجتماعية، وضمان الرفاهية المعيشية. هذا التحول على مستوى البنية الفوقية وإن لم يظهر تأثيره على جماهير المجتمع إلّا بعد نضالات عمالية في المركز الرأسمالي مدفوعة بالثورات الاشتراكية في العالم، وخصوصاً قيام الاتحاد السوفييتي، حيث قامت البورجوازية العالمية بتنازلاتها التاريخية لصالح القوى الشعبية عندها لقطع الطريق على التحول الثوري، هذا التحول جعل من البنية النفسية الفردية والثقافة عامة في الغرب تتلاءم شكلاً مع الطرح الليبرالي الفرداني لناحية الممارسة الفردية، التي لا سلطة للمجتمع عليها (عائلة، دين، مؤسسات اجتماعية ودولة) والتي أوهمت الوعي العام بأن هذا هو الشكل التحرري المطلوب، وأثر ذلك وضلل وعي القوى الاجتماعية لعقود من الزمن، إلى حين انفجار الأزمة العالمية واستفحال التناقضات الخاصة بالاغتراب في الغرب كالانتحار والأمراض النفسية والعقلية والتفكك الاجتماعي والعدمية وغيرها. ولكن لم تكن بنية الوعي والثقافة عامة في هذه المجتمعات رفضيّة بل استيعابيّة (في استعارة لمفاهيم مهدي عامل حول طبيعة البنية الاجتماعية من حيث رفضها أو استيعابها للفرد مثلاً) بشكل وهمي للذات وحاجاتها، أي: أن التغريب هنا كان ضمنياً وعميقاً.
البنية الرفضيّة التابعة
بينما على العكس، كانت بنياتنا الإجتماعية بنية رفضيّة للفرد على مستوى الذات وحاجاتها، فكان تغريبه مباشراً وصريحاً، ليس فقط على مستوى الخدمات والمعيشة المتدنية والفساد، وكذلك على مستوى تهميشه الذاتي في تطور أي إبداع، أو في علاقات الدولة التسلطية المباشرة (عنف مباشر) وفي غياب ظروف “المواطنة”، وإضافة إلى بُنى الوعي القامع للحاجات الفردية الذي وجد في الغرب شكل تحققه الوهمي، وبقيت مجمل العلاقات الاجتماعية خاضعة لمفاهيم المجتمع العائلي الإقطاعي والصغير المغيب للفرد كفرد، وكانت ممارسته محكومة ضمن حدود المجتمع المرسومة في إطار نظام تبعي يُثبت التهميش.
الحل ليس في التماثل مع الليبرالية
هذا لا يعني أن المطلوب هو التماثل مع المفاهيم التي حملها الغرب حول التحرر الفردي المأزوم أساساً (ما يمكن تلمسه على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً عن نسخ وتشجيع وتأثر وثناء تجاه الغرب على هذا المستوى)، ولكن هذا التمييز ضروري لإظهار حجم التغريب الذي يعيشه الفرد في المجتمعات التبعية، ليس فقط تجاه محيطه ولكن أيضاً الذي يعيشه داخلياً، والعداء الذي يحمله في وعيه الموروث اجتماعياً تجاه ما يعتمل داخله من حاجات وتناقضات لا تسمح بنية وعيه بالتعامل معها كونها لا تملك الأدوات للإمساك بها، فيأتي تغريبه حاداً ومؤلماً، وخصوصاً نتائج هذا التغريب والتهميش نفسها، والتي تجد الليبرالية فيها أرضيتها.
برنامج التغيير الجذري وردّ الإنسان إلى ذاته
هذا التحديد يجعل من مهمات البرامج التغييرية قادرة على تلمس هذه التناقضات وتقديم الحلول لها، ولكن في إطار التحرر الفردي الفعلي، أي: أنّ مواجهة الطرح الليبرالي، العاجز أساساً في مجتمعاتنا لعدائه معها، فالليبرالية تفتيتية بالضرورة عندنا، والذي نرى تأثيره في القطاعات الشبابية في مجتمعنا، الحل لا يكون إلا بتقديم الحل الجماعي لإزالة التهميش، والذي لا يكمن بمحاربة بنى العائلة والدين مثلاً، أي: التمرد الفرداني المراهق، بينما يكون عبر تأمين العلاقات الاجتماعية- الاقتصادية التي تحقق حاجات الفرد المعنوية لكي يوجد ويُعترف به في إطار اقتصاد غير تهميشي عادل غير استغلالي أولاً، وإبداعيٍّ يقوم على إشراك الفرد في علاقته بالمجتمع ثانياً، فحينها لا يتحرر الفرد من المجتمع كما تريد الليبرالية، بل يتحرر المجتمع من عناصر التعويض المشوه وكوابح ديمقراطيته. أي: أنّ أيّ برنامج ثقافي سياسي بديل يطال معاناة التغريب الداخلي، عليه تمليك الفرد أسباب وحلول تناقضاته، مع تحولات اقتصادية- سياسية هي وحدها كفيلة برد الإنسان إلى ذاته كما قال ماركس.