مطبات تداعيات ليست صوفية

في الفجر حيث لا يطغى على الوقت سوى سكون شفاف، يرفع أبو العبد يديه مناجياً أعتاب من بيدهم القرار، ويمسك سبحة طويلة من ذات المائة حبة ويعدد أسماءهم حبة حبة، وعند حبة فاصلة يتذكر رؤساء الحكومات الذين مروا على عمره الأشيب.

يفرك أبو العبد السبحة بيديه ليتخلص من لسعة برد شديدة، ومن ثم يعود إلى تاريخه معهم، ولا يتذكر- وهو كالمغشي عليه من الإيغال في الذاكرة- لم يسر خاطري أحد منهم، وعشت مع الجميع شظف الحياة، ولا أعرف إلا الركض وراء الرزق وهو يهرب، وسوى الشكوى وهي تطبق على صدري، وأما البيت الذي حلمت بأن يكون ملاذي صار مرتعاً واسعاً للشجار، والأطفال الذين حلمت بمستقبلهم هاهم انتصروا على الفقر وصاروا مهندسين وأساتذة ولكنهم بلا عمل.

يتوضأ أبو العبد بماء (الحنفية) الذي ترك على يديه بقعاً من الصدأ الأبيض، ويشهق عند أول رشة ماء على وجهه المتعب من سهر الشكوى، ويمرر الماء بين أصابع عضَها الحذاء العتيق، ولا يترك لسرواله الهش فرصة للتمنع فقد اشتراه منذ عيد بعيد، وتهرول عند الباب امرأة مؤمنة وهي تهدهد بدعاء محب: الله معك، ويرزقك.

في الطريق إلى العمل ببقالية الجار العجوز يعود أبو العبد إلى تداعياته كيف تحول الزمن دفعة واحدة، وكيف أضاع من يده فرص العمر، والبيت الذي كان ثمنه ثمانية آلاف ليرة عند جامع الأكرم صار بالملايين، وفي حينها قال له صديق يمتلك حدساً قوياً، ولديه حسابات دقيقة، قال له: يا أبو العبد اشتر ولن تندم، وهذه البساتين التي تراها الآن في المزة ستصير أبنية شاهقة، ولكنه ضحك من تكهنات صديقه واعتبرها شططاً وأحلاماً بعيدة.

لا يزال أبو العبد مثال البائع الذي يخاف الله، وعندما يضع البضاعة في الميزان يزيد من حصة الزبون ويضحك: هذه (طابشة)، ولا يحلف بالله عندما يستغرب الزبون زيادة الأسعار، ويردد فقط عبارة حفظها أطفال الحي: بالأمانة.. الأمانة هو القسم العظيم عند أبو العبد، وعندما يزوره أحد من عايشوا شبابه يبدأ بالتذكر، ويترحم على أيام زمان، ويلعن الساعة التي صار فيها الدولار بهذه الحسبة، ويغفو قليلاً وفجأة بصوت عال يقول: أتذكر يا أبو حسن عندما كان غرام الذهب بثلاث ليرات ونصف؟.

يلمّ أبو العبد ما تبقى من خضار المحل، وبعض البندورة الصالحة للطبخ، وبيضتين من الممكن أن يصنعا صحناً هائلاً يدعى (الجظ مظ)، ومع بصلة حارة يخلد إلى النوم دون هز كما تقول زوجته التي عرفته على هذه الحالة منذ أن تقاعد من وظيفته ناطوراً في مؤسسة عامة.

تعرفه أم العبد كما تعرف أنفاس أطفالها، وعندما يثرثر الأبناء عن خيبة أبيهم تصرخ من كل رأسها مدافعة عن الرجل العصامي الذي سعى إلى تعليمهم في الوقت الذي يرسل الآباء أبناءهم إلى العمل، ومن ثم تعود إلى لهجتها الحانية: صحيح أن أبناء عمكم لم يتعلموا واشتغلوا (بالباطون)، وصار لديهم منازل وطوابق، ولكنهم فاشلون، ولا يعرفون سوى العمل، وليس لديهم أحاسيس.. صاروا يشبهون الاسمنت، والحديد، وعقولهم مثل الصوان.

أبو العبد في يوم الجمعة يستيقظ باكراً، يستل مشطه الصغير من جيب سترته، ويمشط النصف الأخير من رأسه، ويقول للمرآة أتذكرين (الخنافس)، ويطلب من أصغر أبنائه أن يشذب له شاربه بعد أن ضعف النظر، ويدخل في مناجاته الداخلية إلى زمان خدمته العسكرية، والتعليمات الصارمة عند تنفيذ الكمائن للصهاينة، ولكنه فشل في كمين واحد أصاب حياته بالهزيمة.. كيف لم يقبض على الفرص التي ضاعت.. آه طويلة تخرج من صدره المسكون بالشعر القاسي.. هزمتك الحياة يا أبو العبد لأنه الزمن الصعب. 

 

■ ع.د

معلومات إضافية

العدد رقم:
544