مطبات الأشباه..

تتشابه المدن الصغيرة والكبيرة هنا.. تتشابه في الرحلة التي اضطررت لأن أذهب فيها من أقصى ريف دمشق إلى أقصاه.. تكاد لا تشعر بأنك تغادر أو تنتقل، لدرجة شعورك أنك في البيت، الناس هم، يشبهون يأسك، وجهك الطافح بالخيبات، الشكوى المنسوخة من أوجاعهم، المتشابهة حتى في الآه.
تتشابه المدن... كل الريف الممتد من القرى المختبئة بحضن جبل الشيخ إلى آخر ذروة في القلمون، قرى ومدن وأشباه مدن تتشابه لدرجة الإعياء، لدرجة عدم الشعور بهواء جديد، على الأقل شعورك بنسبة أقل من التلوث.

 شريط من الإسفلت يرقع الجانب الأيمن أو الأيسر مما يمكن أن تسمى شوارع معبدة، مشروع  المياه الكبير الذي اخترق شوارع المدن والقرى كمشروع إرواء كبير، مشروع يمتد من الينابيع إلى المحرومين من جرعة ماء تبل الريق، مشروع استعانت الحكومة عليه بما استطاعت واقترضت لأجله وقدمت المساعدات لإنجازه، ثم لا تقوى على ترقيع مروره بما يليق، الأدهى أن مشروع نقل المياه من (ريمة) في جبل الشيخ إلى القرى القريبة لم ينجح بعد إتمامه بتمويل ومساعدة اليابانيين، لأن نبع الريمة قد جف.
تتشابه الصيدليات التي تبيع ظروف (الشامبو) من ماركات عالمية برخص إنتاج محلية، وبما يدر الأرباح السريعة من حبوب الإثارة من الفياغرا إلى المراهم المستوردة لإطالة المتع، وبيع حبوب التخدير من البالتان والفوستان ومشتقاتهما، بالإضافة إلى الهدايا وملطفات الجو، عربات الأطفال، وفوط الأطفال، ومعاجين الأسنان، ولم يتبق سوى بطاقات الموبايل.
الوجوه الموزعة على الريف الدمشقي تؤانس بعضها بما يعتريها من عيون لا لون لها، وألوان مغبرة، وملامح لا يمكن أن تعبر عن شيء، الفرح والأسى والحزن والدهشة كلها تأخذ ردة الفعل نفسها، تتشابه حتى الآهات، الخطوات، السير المتعثر، التأتأة، اللهاث، البحث عما يمكن أن يأتي بربطة خبز دون طأطأة ذل.
تتشابه الأحاديث التي تبدو جريئة في بعض الأحيان، الأحاديث التي تتناول الفساد، والهمس الذي يطال بعض من لم تطالهم المحاسبة، وعلى الأغلب لن تطالهم أبداً، والتهكم على ما يرويه البعض من بين ظهرانينا حول شجاعته في الكتابة عن الفاسدين، وعن وصم الصحافة (حكي جرايد)، والجرأة في الحديث عن اللصوص والذين أثروا فجأة واستغلوا مناصبهم ونفوذهم، ثم الصمت المخاتل عند مرور غريب، ثم يقطع الحديث الشجاع، مهادن يرشق الممتعضين بمثل من قبيل الوصول إلى التوافق، (على قد فراشك مد رجليك)، يا صديقي المخاتل عن أي فراش تتحدث وأية أرجل؟؟.
في طريق العودة عكس الطريق، سائق السرفيس المخنوق من صيف جاء قبل أوانه، يلعن المهنة التي تضطره ليتعامل مع البشر، وأجرة الدولة التي لا يلتزم بها المواطن، والنماذج التي تركب معه، لولا الحاجة ثلاثة أرباع الركاب سيتركهم على قارعة الطريق، مخالفات المرور الغيابية والظالمة، غلاء المازوت، لم تعد مهنة للعيش، أربع عائلات تعتاش على السرفيس، من كان وراء هذه الصفقة اللعينة، مع الحديث تفوح رائحة تعرق تسكت ثرثرة السائق المتبرم.
يخترق السرفيس المدن المتشابهة، في مداخلها المقنطرة، رسائل الترحيب... أهلاً بكم في مدينة.. قرية، وتتشابه في عبارات الوداع (نشكر لكم زيارتكم)، في الطريق الذي يعبره السرفيس لا يمكن أن تشاهد ما يمكن أن يبعث على السرور من زيارة مفاجئة، وتبقى كلمات الشكر مجرد رسالة غير مفهومة، رسالة هل المقصود فيها نحن، أم من يدخل إلى قرانا المتشابهة ومدننا المتناسخة عن غير قصد؟.
من أقصى الريف إلى أقصاه نسخ متشابهة، تخترقها بيوت لا تنسجم ولا تتشابه مع المتشابهين، بيوت من الممكن أن تكون مزروعة في شارع صامت، شارع لا يعبره المارة، ولا راكبو الأحذية، بيوت مسروقة لا تشبهنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
405