جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

إبراهيم نصر الله في «زمن الخيول البيضاء»: الملحمة الفلسطينية خلال قرن

«لقد خلق الله الحصان من الريح والإنسان من التراب.. والبيوت من البشر»... من وحي تركيبة هذا القول العربي القديم ينطلق الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله ليصوغ جديده «زمن الخيول البيضاء» العمل الروائي الملحمي الذي يغطي 60 عاماً من تاريخ الشعب الفلسطيني، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر، حتى احتلال فلسطين في عام 1948. رواية جاءت لتقول ما الذي حدث في فلسطين وأهلها في تلك الفترة التي يتم تناولها لأول مرة بهذه الشمولية وهذا الاتساع. ويتوج بها مشروعه الروائي الكبير «الملهاة الفلسطينية» الذي بدأ العمل عليه منذ عام 1985، والذي صدر منه خمس روايات قبل هذه الرواية هي: «طفل الممحاة»، «طيور الحذر»، «زيتون الشوارع»، «أعراس آمنة»، «تحت شمس الضحى»، لكل رواية أجواؤها الخاصة وشخوصها وبناؤها الفني المستقل عن الروايات الأخرى.

يستعرض نصر الله في هذا المشروع 125 عاماً من تاريخ الشعب الفلسطيني برؤية نقدية عميقة ومستويات فنية راقية، انطلاقاً من تلك الحقيقة الراسخة التي عمل عليها دائماً، والتي تقول بأن إيماننا بالقضايا الكبيرة يحتم علينا إيجاد مستويات فنية عالية للتعبير عنها.
ففي حقبة زمنية لم يسبق للرواية أن ذهبت إليها، (نهايات الاحتلال العثماني)، يولد بطل هذا الرواية «خالد» (الذي استقى نصر الله شخصيته من عشرات الشهادات الشفوية المعززة بحكايات شعبية فلسطينية)، ليصير حديث الناس، وأسطورة الأجواء القروية بمآثر شجاعته وشخصيته الفريدة وحكايات حبه التي تتناقلها الألسن من مكان إلى مكان، ومنها التعلّق الجنوني بمهرة بيضاء ظهرت ذات يوم في شوارع القرية واختفت، وحكايات بحثه المستمرة عنها وانتظار عودتها. ومع زوال الحكم التركي وبداية عصر الانتداب الإنجليزي على فلسطين تبدأ الهوية الإنسانية الوطنية لهذا البطل الملحمي بالتشكل شيئاً فشيئاً، عاكسة طموحات شعبه لبلورة هويته بعد قرون طويلة من الاستبداد التركي، في زمن يستشرس فيه الاستعمار ومن عدة أطراف للسيطرة على تلك المنطقة.
تحاور الرواية المفاصل الكبرى لهذه الفترة الزمنية الصاخبة بالأحداث بالغة التعدد، والصراع المرّ بين الفلاحين الفلسطينيين، وزعامات الريف والمدينة، والأتراك والإنجليز والمهاجرين اليهود والقيادات العربية، كما تقدم الرواية صورة عميقة لدور جيش الإنقاذ وما حدث مع الجيش المصري بشكل خاص في عام 1948 مسلطة الضوء على العديد من التفاصيل التي جرى تغييبها وتم استقاؤها من شهود فلسطينيين شهدوا تلك الحقبة.
وتتقدم الحياة الشعبية الفلسطينية اليومية في القرى والمدن لتحتل المشهد الروائي الحافل بحكايات البطولة والحب، الحياة والموت، الخيانة والصفاء والرحمة والقسوة، في حين تضيء ميثولوجيا الخيل الأعماق الذاتية والنفسية للشخصيات في مجتمع بالغ الحيوية في طقوسه وحكاياته.
فضاء الرواية يقوم على الثنائيات، فيلتقي التضاد بالمكان أولاً بين الواقعي «قرية الهادية» والمكان المتخيّل الذي يتسع ليصير وطناً، يضيقُ على شعبِه بفعل أيادٍ نهبته.
كذلك ثنائيّة الحب والهجر التي تخرج عن المعاني المألوفة عند البطلتين حبيبتي البطل «زوجته أمل» التي تموت و«فضّة الفرس» المسروقة التي يسترجعها أصحابها، وتتحوّلان بفقدهما معًا رمزًا لفلسطين التي فقدت أملها وحريتَها بفعل أسباب مختلفة .
وأيضا ثنائية الحياة والموت، فالموت في الرواية لا يعني انتهاء الحياة ولا نهاية القصة، وهنا تبرز جودة صنعة الكاتب، الذي أعدّ للرواية فصولاً جديدة متتابعة ليخبرنا بأنّه إذا مات بطل فهناك أبطالٌ من صلْبِه والمسيرة مستمرة. وثنائية التبدل تدريجية فمن الخوري «جورجيو» إلى «ثيودوروس» ومنه إلى «منوي»،المستبدين بسلطتهم الدينية السياسية الأجنبية إلى المقابل الخوري«إلياس» العربي الذي يقف مع شعبه وأهله ضد مؤامرات الكنيسة وسطوتها.
وأقوى الثنائيات المتبدلة الواضحة بين الحصان الذي خلقه الله من ريح، والإنسانِ الذي خلقه اللهُ من تراب، إذ يجيرها الكاتب لجعل الحصان كالإنسانِ مخلوقاً يبكي ويفرح، ويعشقُ ويهجر، ويتماهى مع صاحبه حتى يُصبحا واحداً . كذلك حول الإنسان لريحٍ تعصفُ في وجه رياح الغدر والظلمة والاحتلال والاستيطان، وثنائية الحجر والبشر حيث شبه البيوت كأنها من البشر، ليحيل الأوطان إلى بشر، وأينما حلّ البشر حلّ الوطن. وهذا يذكرنا بقول الراحل الكبير محمود درويش «فالبيوت تموت إذا غاب سكانها». وبهذا جاءت الرواية مقسمة إلى ثلاثة أجزاء هي: الريح، التراب، البشر.
كذلك البناء المتماسك لعناصر الرواية أعطاها جاذبية خاصة، فهذه الثنائيات التي تتحول تكسب النص نبضاً حياتياً، فالراوي هو أول من يُقيم تلك التحولات، حيث السرد ينتقل من راوٍ لآخر دون مقدماتٍ ودون ذِكر أسماء، وهذا التبدل ينقل لنا التأريخ الحقيقي من فم الرواة الأصليين الذين سمع منهم الكاتب الروايات الحقيقية، مما يعطي نفساً صادقاً للحدث وتتأكد الحقيقة التي أتت على لسان البطل: «أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي. لم يحدث أبداً أن ظلت أمة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئاً واحداً: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر إلى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد».
«زمن الخيول البيضاء» هي في الأصل قصة عائلة فلسطينية «كتبت الخيولُ أقدارَ رجالها» مؤمنة بـ «أن عُمرَ الرجال أطول من عمر الإمبراطوريات»، لتحول لرواية تاريخ أجيال متناقضة الشخوص تتصارع بصورة مريرة، لكن ما يجمع هذه الشخصيات هو حبّها للخيول. في إحالة على أهم المفاصل التاريخية التي شابت ذاك الزمن وتبدلاته، من خلال رواية جمعت عدة أجناس أدبية، كالملحمة والحكاية الشعبية والأغنية و والسرد السينمائي.
ينبع تميزها لا من كونها أرخت لمرحلة زمنية بقدر ما خلقت شيئاً من التواصل بين الماضي والحاضر، فنصر الله لا يكتفي بالتأريخ وبالتوثيق إنّما يستحضر الماضي بأبعاده الاجتماعية والسياسية وخفاياه وأسراره ليس بقصد استثارة القارئ، وإنّما لمحاولة فهم الحاضر وآفاقِ تطوره. ولذلك جاءت النهاية مفتوحة على تأويلات مختلفة تترك للقارئ متعة تأويلها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
410