ثائر ديب ثائر ديب

بين قوسين مفكِّر... كبير!!

حين كان «شيوعياً»، أواخر ســـبعـينيات القرن الفائت، كان يكفي أن يُطلِقَ زعيمه أيّ شيء، كأن يكحّ مثلاً، كي يعتبر ذلك «بعضاً من عطاءات هذا الزعيم الفلسفية».

حين كان لا يزال» شيوعياً»، أوائل ثمانينيات ذلك القرن، كان يكفي أن يخرج ناقدٌ قيد أنملة عمّا يعتبره «الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن» كي يهدر مهدِّداً: «نحن الممتدين من الرياض، إلى طهران، إلى موسكو»، حتى إنَّ الروائي السوري هاني الراهب أخذ مقاطع حرفيّة من سجالاته هذه ووضعها على لسان شيوعي «خفيف» في روايته «بلد واحد هو العالم».
وحين جاءت البيروسترويكا باتت صنمه الجديد. وبانهيارها، وفي غمرة انشقاقات الشيوعيين، راح يتقلّب على غير هدى، حتى إنّه فكّر للحظة، مع بعض الفتية الذين انفضّوا عنه لاحقاً، أن يكون له انشقاقه الخاص.
جاء الفرج، مع مطلع القرن الجديد، بصنمٍ مطابق للزيّ الدارج: المجتمع المدنيّ. غير أنَّ طبعته من المجتمع المدني بدت نقلةً لافتةً وزائدةً على نحوٍ خاص: من «سوسيولوجيا» لا ترى سوى الطبقات، وتجد في الطبقة العاملة حلاً لمشكلات الدنيا والآخرة جميعاً إلى «سوسيولوجيا» لم تعد تجد أيّة طبقات في فضاء المجتمع برمّته، بل طوائف متناحرة وأقليات وأكثريات بأردأ معانيها.
هكذا، بات الأعداء طوائف معينة (وليس طبقات أو فئات اجتماعية)، وبلداناً معينة (وليس الرأسمالية والإمبريالية العالمية)، وأشخاصاّ معينين (وليس منظومةَ قمعٍ أو فساد). وجرى التعبير عن ذلك كلّه بأسلوبٍ في الكتابة منفِّرٍ، بالنسبة لي على الأقل، حتى لا أكاد أفرّق بينه وبين أساليب من يكتب ضدهم، كأنه مجرّد ردّة فعل مريضة على فعل مريض، وكتابة لا دلالة لها خارج عداواتها، كما يليق بأيّة كتابةٍ فكريةٍ حقّة ترنو، ولو قليلاً، أبعد من أحقادها.

مسلّحاً بهذا العتاد الجديد، لم يكن غريباً أن يدلي بدلوه فيما شهده لبنان ويشهده: مؤامرةٌ صفويّةٌ على البلد الحريريّ المستنير. أمّا أبناء الجنوب -الذين لطالما أهملتهم الدولة وأذلّتهم إسرائيل، فقاتلوها مع كلِّ من قاتلها (من الفلسطينيين إلى حزب الله مروراً بكلِّ الأحزاب الوطنية اليسارية)- فهم مجرد أداةً طيّعة بيد العقل الفقهي والمؤامرة الصفوية، يوجّهانها إلى خطف الإسرائيليين، والحرب، وثقافة الموت بدلاً من إرسال أبنائها لجلب شهادات الدكتوراه.
بعد هذا المسير الطويل، كان لا بدَّ للسأم أن يفعل فعله، فبدا صاحبنا كأنه أعطى شعبه «عدّاناً»، أو موعداً محدداً للتغيير، نابعاّ من مزاجه الذي تعب وملّ الانتظار، وإلا فليأتِ ذلك التغيير من أي مكانٍ في الأرض، من واشنطن، أو الرياض، أو قريطم.
آخر عهدي به يصرخ في برنامج فضائيّ سجالي، والمذيع يسأله مشمئزاً: هل يمكن لمفكر أن يزعق على هذا النحو؟
آخر عهدي به يصرف، وسواه، من الرصيد التاريخي لليسار السوري، أعماراً وسنين عذاب و آمال خلاص وتقدّم، فيؤخّره، على تأخّره، عشرات السنين.روحي على روحك تنسحن
حن بويه حن».

معلومات إضافية

العدد رقم:
411