مطبات: حديث الشمع

• أراد أن يهزم شمعة فانتظر؟
(نذير الياس)
 عاش جدي لوالدتي أكثر من نصف عمره على ضوء (الكاز)، كذلك عاش كل جيله، أما لماذا سيرة جدي فلأنه كما البقية يؤمن أن التلفزيون كإحدى ثمرات الكهرباء يشبه الشيطان.

وكان رحمه الله مغرماً بالإذاعة لأسباب متعددة منها أن بإمكانه تشغيل الراديو على البطارية، أما التلفزيون ففيه مشاهد الرقص، والقبل، والعري، والأفلام الأجنبية التي على حد رأيه مفسدة جاء بها الغرب إلينا من قبيل الاستعمار.
والدي أيضاً رحمه الله لم يكن بقسوة وجهة نظر الجد، لكنه ليس من جيل منفتح، فكم من الليالي طردنا إلى النوم عند ضبطنا نتابع حلقة من (سفينة الحب)، وكم نظرة كانت تكفي لأن ننسحب من أمام التلفزيون أثناء عرض رقصة شرقية لـ«نجوى فؤاد»، أو مقطع مثير في فيلم أبي فوق الشجرة، أو مشهد عن شارع العوالم في فيلم (بمبة كشّر).
أمي كانت تحن لليالي قريتها المحتلة، أحاديث أهلها على ضوء (القصبة)، وهي اختراع سبق سراج الكاز الذي ينار بفتيل، القصبة كانت نباتاً يغمس بالوقود ويحترق ببطء مع بعض الضوء، لذلك كنت أعتقد دائماً أن كل حكايات الجدات والعجائز كانت على العتمة، فرسخت مرعبة في عقولنا.
دخلنا عصر الكهرباء، وتبدلت أدوات حياتنا، لم تعد المرأة تغسل بيدها، ولم يعد (برش الغسيل) يحرك بالماء الساخن بعصا، ولم تعد قطعة القماش بحاجة إلى عضلات رجل لعصرها، لذلك صارت نساء هذه الأيام رقيقات، و(بزنود) ناعمة، وأكفّ حانية، جاءت الغسالة الكهربائية أجمل من مهر عروس، وتسارعت الإنجازات، براد بدل جرة الفخار الملفوفة بالخيش المبلل، جلاية صحون بدل ليفة الألمنيوم، والمونة خرجت من ثوبها القديم إلى الجمادة الحديثة، وسقط راديو جدي القديم أمام تقنية الفيديو، المسجلة، الـ(CD)، أما الحر فهزمته المكيفات، والوحدة المقترنة بكتاب صرعها الأنترنت... بالمحصلة ماتت أحاديث الجدات تحت ضوء الكهرباء.
لكننا لم ننعم بجنة الكهرباء كباقي البشر، من هبوط التيار الكهربائي المفاجئ، إلى احتراق إنجاز كهربائي كلف أضعاف الراتب الاجتماعي، من قطع التيار لإصلاح عطل طارئ لمدة ساعات، من شيخوخة شبكة الكهرباء، المفرقعات عند هبوب ريح شتائية، أول المطر، شتاء قرانا عاد إلى ظلمته، لكن ليس على ضوء الكاز، بل على الشمع، أو في أحسن ظروفنا - ما غزا سوق الكهرباء- (الشواحن والمولدات الصينية).
هذا الصيف مر قاسياً، معتماً، حاراً، ففجأة بدأ الانقطاع المنتظم للكهرباء دون أي تعليق حكومي، لكننا نحن السوريين الذين اعتدنا قراءة ما يجري دون أن يكلف أحد نفسه عناء إخبارنا عما يجري، وزارة الكهرباء احتاجت إلى توجيه حكومي لكي تعلن برنامج التقنين للناس، وطلب رئيس الحكومة الإسراع في إنجاز المشاريع الكهربائية وتشجيع الاستثمار في الطاقة، هذا الإجراء الحكومي فض السرية عن واقعنا الكهربائي على الأقل، فيما فشل في إلغاء التقنين في ساعات القيلولة، أو في السهرة المعتمة.
بدأت اعترافات العجز تتوالى، وصولاً إلى التكهن بعجزنا حتى سنوات قادمة إذا لم يتم تدارك الواقع المهول، فعجزنا الحالي (1000) ميغا واط، وسيرتفع باضطراد، وعلى الحكومة أن تجد بدائل حقيقية، وحلولاً سريعة، وإلا سيكون الوضع كارثياً.
كلنا يعرف ما يمكن أن يكون عليه الحال لو استمر الحال، كلنا يعرف أن الإهمال قادنا إلى ما نحن فيه، الإدارات المترهلة، السرقات، الاعتداء على الشبكات الكهربائية، الأنوار المضاءة في عز النهار، قارئ ساعة الكهرباء والمفتش الذي لا يأتي، وإن أتى فلكي يأخذ نصيبه ويمشي، المحطات التي تحتاج إلى صيانة،  الوزارات والدوائر المضاءة ليل نهار، سخانات موظفي الدولة من أجل شرب القهوة والشاي و(المتة).
عندما كانت حياتنا بسيطة كان الشمع يكفي، عندما تعقدت حياتنا صارت الكهرباء قصبة الكاز لكن دون حكايات، اللهم.. سوى المجهول.

معلومات إضافية

العدد رقم:
416