عين على فيروز.. وعين على زياد
دون أن يغير في عاداته شيئاً يخرج زياد الرحباني بنتاجه الجديد ليبدأ الشارع الثقافي بنقاش يمتد فترة طويلة، ويحرك الساحة الثقافية العربية الراكدة بحجر جديد في كل مرة.
هذه المرة، ككل مرة، هناك شيء جديد في نتاج زياد الرحباني. بعد مونو دوز وسلمى مصفي وإمكانياتها المتواضعة.. فيروز تاريخاً وصوتاً يقدمها في (…ولا كيف) ألبوم يستحق التأمل طويلاً وبهدوء.. وصلت إلى قاسيون حول هذا الألبوم مقالتان منفصلتان تماماً كل منهما تحمل نظرة مختلفة لنرى دوائر فيروز وزياد الرحباني ترتسم على سطح بحيرة الغناء العربي، وتلونها بألوان كثيرة.
* المحرر
هل يريد زياد أن يلغي فيروز؟!
بعد ذلك التاريخ الطويل الذي تحفل به ذاكرتنا عن السيدة فيروز، يطالعنا ابنها زياد الرحباني بنتاجات غريبة في كل مرة، وأنا لا أدري تماماً لماذا يفعل ابنها ذلك، هذا التاريخ الحافل بملاحم غنائية، يحطمه زياد بأغانٍ لم تتوفق في تسجيلاتها الأخيرة، ويضع صوت فيروز العظيم في قوالب غنائية غريبة عنا ولا تمت لنا بصل. فمرة نسمعها وهي تغني بطبقات لا تتلاءم مع صوتها، واللون الغنائي الذي اعتدناه في صوتها وتارة نسمعها وهي تدندن بأغان لا تليق بمقامها وأخيراً يطالعنا بفيروز تغني جاز هذا آخر ما كان ينقصنا، سفيرتنا إلى النجوم تغني الجاز، وما كان ينقصنا إلاّ أن نسمعها وهي تغني الروك.
هنا أريد أن أطرح على نفسي سؤالاً ماذا يريد زياد من أمه؟ لقد استطاع أن يثبت عبر فترة طويلة من الزمن أنه معد برامج إذاعية متميز، وأنه كاتب ومخرج مسرحيات كوميدية من الدرجة الأولى لكن فليبتعد عن أمه، التي لم تعد ملكه وحده ففيروز ملك لملايين البشر من المحيط إلى الخليج، وتتخطى ذلك إلى ما وراء المحيطات إلى ما وراء السماء، إنها بحق سفيرتنا إلى النجوم، فما الذي يريده منها ابنها.
وإذا لم نذكر كل الأمور التي تحدثت عنها هنا فكيف سأغفل أنه جعل أمه تغتال ماضيها بهذا الشكل وبالأخص في أغنية «لا والله»، وبهذه الكلمات التي ألفها بنفسه. إن زياد الرحباني يغتال ماضينا.. وتاريخنا بذلك، وأنا أعرف عدد الأشخاص الذين يوافقون على رأيي بذلك، ويجب أن يكون هناك أحد شجاعاً ليقول له أعد لنا فيروز، أعد لنا فيروزنا.
* سامر .ب K
كيف.. زياد الرحباني؟!
كلما أصدرت فيروز شريطاً من كلمات وألحان زياد الرحباني، قرأنا في الصحف تقريعاً لهذا النتاج على ما يعتبر إساءة إلى والدته وتراثها الغنائي الضخم. إن ما يفعله زياد تماماً، هو استخراج القدرات الأدائية في صوت فيروز، التي حجبها جمال صوتها. ويقدم لها الفرصة لتغني على أسس علمية، مرتبطة بالتعبير، أكثر من ارتباطها بالطرب.
في الأيام القليلة الماضية حدثت معي مجموعة من الأحداث التي سأحكيها لكم بعجالة:
- بينما كنت أتمشى مع صديقة جميلة .. جداً، كان شريط فيروز الجديد موضوعاً لجزء من حديثنا، كما هو الحال عند نزول أي شريط لفيروز. قالت لي: «هل تخيلت يوماً أن فيروز ستقول: "لك بس"؟». لم أجب، لأن السؤال يحتوي جوابه، ويحتوي ما يكفي لجعلنا ندرك كيف يفهم الرحباني المتمرد تماماً طاقات صوت فيروز وقدرتها على الأداء.
- بعد الحادثة السابقة بيوم دخلت إلى المنزل متأخراً، فاحتوت إحدى رسائل «الآنسر ماشين» على صوت السيدة فيروز: «رفيق، يا رفيق، وينك يا رفيق؟ حملتني إشيا كتيرة، حجار وغبرة وصناديق». سعدت بهذه الرسالة، لأن المتصلـ(ـة) اختار طريقة جميلة جداً ليعبر لي عن شوقه.
- أثناء استماعي إلى الشريط، تذكرت صديقاً غاب عنا أكثر من شهرين دون أن نعرف عنه شيئاً، وتذكرت كيف كنا ندوخ ونحن نستمع إلى جاره وهو يتحدث بثلاثة مواضيع -على أقل تقدير- دفعة واحدة، دون أن يجيبنا عن السؤال الأساسي: «طمني عن أخبارو شو أخبارو انشالله ما بو شي؟».
- كذلك، تذكرت فتاة كنت أّتبع معها حيلة جديدة علي (وليس على الشباب، إذ إنهم لم يتركوا لنا شيئاً جديداً) لجذبها، وهي الاستماع إلى مشاكلها مطولاً، وتذكرت كم تمنيت أن أقول لها: «كلمة كلمة يا حبيبي، تا إفهم عليك، أو فتش عن غيري بيفهم إذا رح تبقى هيك».)
- ولم تتوقف ألوف من الأفلام عن التدفق إلى ذاكرتي التي تتحدث عن الخريف، جمعها صوت فيروز وألحان زياد في أغنية واحدة «بيذكر بالخريف».
إن زياد الرحباني واحد من أهم الموسيقيين العرب المنتجين حالياً، جنباً إلى جنب مع مرسيل خليفة وعابد عازرية وأنور براهم وغيرهم. وهو نموذج ممتاز للطاقة المتفجرة القادرة دائماً على الإنتاج في كل المجالات. فهو لا يكتفي بإنتاجه الموسيقي المستمر فقط، وإنما يرفده بإنتاج مسرحي وإذاعي غزير ونادر. آخر ما قدمه زياد الرحباني كان شريط فيروز «ولا كيف…» والذي سبقه monodose بأداء سلمى مصفي.
الواضح من خلال الاستماع المتأني لهذين الشريطين هو أن زياد يعتمد مرحلة جديدة في إنتاجه الموسيقي والغنائي. فهو أولاً يستخدم صوتاً نسائياً واحداً، سواء كان صوت فيروز أم صوت سلمى المصفي (مع الفرق الكبير بين الصوتين وقدرات الأداء). وهو ثانياً يتخلى عما يسمى بالجاز الشرقي أو حتى الموسيقى الشرقية البحتة (التي برزت بوضوح في «لولا فسحة الأمل») إلى الجاز الغربي تماماً، بل إنه يأخذ بعض الألحان من مغني جاز مشهورين عالمياً، فيكتب كلمات لها، وتوزيعاً جديداً (ولكنه -على عكس الكثيرين غيره- يعترف بأصل الأغنية). وهو ثالثاً يعتمد على الازدحام في الآلات الموسيقية التي تعزف معه.
ويضعنا الاستماع إلى شريط «ولا كيف» أمام عدة حقائق. الأولى: أن صوت فيروز العظيم قد ضعف من حيث مساحته والطبقات التي يغطيها، ولكنه -أي صوت فيروز- حافظ على قدرة أداء مذهلة. الثانية: أن زياد الرحباني قادر تماماً على تجديد طروحاته الموسيقية والفكرية دائماً، رغم المكانة التي يتبوؤها لدى متابعيه، كما ويثبت الشريط أيضاً أن زياد قادر على فهم الصوت الذي يتعامل معه تماماً، وبناء موسيقى تخدم الصوت وتستغله في آن -لحناً وتوزيعاً-. الثالثة: أن زياد يبتعد عن التطريب، ويقوم عمله على لحن بسيط جداً، يبنى عليه توزيعاً معقداً جداً. الرابعة -وهذا انطباع شخصي- أن زياد توقف عن العمل على مشروع موسيقي متكامل كان يعمل عليه، رغم أنه لم يكتمل. أما الحقيقة الخامسة فهي أن السيدة فيروز شجاعة بحق.
بدأت بالحكايات، فلأختم بحكاية تتكرر كل يوم: أكتشف أن وقت مغادرة البيت قد حان وأنا أستمع إلى «ولا كيف…» فأضطر آسفاً لإطفاء المسجلة عند أغنية ما، وإذ بي أتابعها في البيوتات المجاورة من كل شرفة، وكل شباك، وكل عابر في الطريق. ولن تتغير هذه الحكاية، حتى لو قرأت الشرفات والشبابيك والعابرون في الطريق الصحف «الحريصة» على صورة فيروز وتراثها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 167