من أبعد القارئ السوري عن الكتاب؟؟!!
«في الحرب تصبح الحقيقة ثمينة لدرجة أنها يجب أن تحاط بحراس من الكذب.. »
تشرشل الذي قال تلك الكلمات، رجل امتلك الحقائق فأتقن الكذب، وأتقن الحرب فامتلك نوبل السلام...
والهوة بين الحقيقة والكذب ليست الهوة الشاسعة فالكثيرون ممن أتقن لعبة تشرشل انتعل الحقيقة كفردة حذاء زاوجها مع «فردة كذب» في قدمه الأخرى...
وأزواج الأحذية تحيط بنا من كل جانب، وسيور الأحذية تصنع كثيراً من «شبكات الثقافة» وشبكات «المشاريع التنويرية» و «المؤسسات الثقافية».
ونظراً لكثرة تلك المشاريع والمؤسسات والمشاهد فسنتخذ من دور النشر السورية والكتاب السوري نموذجاً مصغراً ـ وهو ليس بالصغير ـ عن واقع الحال في شارع الثقافة.
وربما ستسأل:
*كيف أبعد القارئ السوري عن الكتاب وكيف أبعد الكتاب القارئ السوري عنه؟
* هل انتصر «برجك اليوم» و «ليلة الزفاف الأولى» على المشروعات الثقافية المفترض أن تمثلها دور النشر كإحدى أهم الأولويات التي تندرج ضمن أهدافها؟
* من سيحمي الكتاب السوري والقارئ السوري والناشر السوري والكاتب السوري بوصفهم أدوات لتشكيل البيئة الثقافية في المجتمع...
* وأخيراً كيف سينتزع النوع مصداقيته أمام كل ذلك الكم؟!
*الأستاذ القاص جمال سعيد المدير الفني المسؤول في دار الطليعة الجديدة كانت له جملة آراء في هذا المجال:
**»أعتقد أن الأزمة قائمة ومركبة إن لم أقل معقدة. فالقارئ يحتاج إلى رغبة في المعرفة ووقت للقراءة إضافة إلى تدني مستوى دخله المعيشي قياساً لأسعار الكتب، والرغبة في المعرفة تتحفز في ظل وجود تيارات سياسية أو فكرية حية غير مدجنة.
* إذاً نلاحظ أن حال القارئ ناتج عن شرط اقتصادي وسياسي وثقافي مكرس عبر زمن ليس بالقصير؟!
** أجل ففي فترة الخمسينات مثلاً كان الصراع الفكري والسياسي في منطقة المشرق العربي قائماً على أسس مختلفة، سواء من زاوية طابع الصراع العالمي في حينه، أو من زاوية الفرز الطبقي والأيديولوجي في المجتمع أو من زاوية المناخ الديمقراطي في بلدان حديثة الاستقلال
وكانت المؤسسات الثقافية والسياسية «الأحزاب» تشكل ظاهرة حية في تركيبة المجتمع.
أعتقد، ولأسباب كثيرة، أن هذه الظاهرة أصبحت أقل حيوية. فمن جهة كان أفراد الشريحة الوسطى ـ التي تشكل فعلياً النسبة الأكثر من القراء الجادين ـ يملكون ما يكفي من الوقت والمال نسبياً للمشاركة في الحياة الثقافية، ونظراً لانحسار هذه الشريحة في الكثير من البلدان العربية بما فيها سورية لم يعد المواطن مهيئاً بشكل حقيقي لدخول معترك الحياة الثقافية والسياسية والفكرية..
* لعل معيار «الكتاب الجيد» قد أصبح معياراً فضفاضاً نوعاً ما بحيث يصعب التفريق بين الكتاب الجيد والكتاب الرديء. فكيف تقيمون الكتاب الجاد من وجهة نظركم؟
**إن تحديد إجابة دقيقة تتضمن مختلف فروع المعرفة من علوم وفنون وآداب وفلسفات ليست بالإجابة البسيطة، لكني أعتقد أن الكتاب الجاد والجيد ينبغي أن يشكل حلقة رئيسية في سلسلة البحث المخلص عن الحقيقة، أو أن يكشف أو يكرس الحلم المشروع بحياة أكثر جمالاً وعدلاً يتحقق فيها للفرد والمجتمع فيض من الحرية والقوة « بالمعنى الإيجابي للقوة».
هذا يعني أني أفترض أن الكتاب ينبغي أن يكون غاية وأداة، يتمثل جزءاً من عملية المعرفة النبيلة البعيدة عن التعليب.
بلغة أخرى: على الكتاب أن يكون سلاحاً بيد الحقيقة لا «تقنيعاً» لها ولا حجاباً يغطيها، فكثيراً ما يتم إعادة إنتاج للحقائق بما يتناسب مع هذا (الخط الثقافي) أو ذاك، مع هذا البرنامج السياسي أو ذاك...
الكتاب الجيد يستطيع أو «يحاول على الأقل» نقل «الفكر» من خدمة المؤسسات إلى خدمة الحقيقة.
* كثيراً ما توضع دور النشر في قفص الاتهام من قبل المتابعين والقراء ولاسيما بالنسبة لنوعية الكتاب المطروح وسعره، فهل تجدون صحة في هذا الطرح؟
**لابد لنا أن نعترف أن الكتب التي تخاطب غريزة القطيع أوسع انتشاراً وأكثر تحققاً، ولعل ضعف الإنجازات قياساً بالمهام المطروحة على القوى القومية والعلمانية إضافة إلى الانكسارات والتراجعات التي ساهمت في إحياء التوجه نحو التيارات السلفية كانت من أهم المسببات التي أدت لتلك النتائج. إن بعض دور النشر بدأت عملها على أساس «الجمهور عاوز كده» وحققت أرباحاً لا نحسد المجتمع عليها بالطبع..
وبقي الكتاب الجاد وناشروه يبذلون جل ما في وسعهم لإيصاله إلى من تبقى ممن يحملون هموماً معرفية وإن شئت وطنية وإنسانية..
*السيدة زويا علاء الدين في سؤال لها عن طبيعة الدور المناط بدور النشر لرفع السوية الثقافية والمعرفية للقارئ أجابت:
**باعتقادي إن الدار التي تحمل مشروعاً ثقافياً جدياً يفترض أن تعمل على رصد الواقع الثقافي في المجتمع السوري والعربي لتحقيق هدفين رئيسيين: آولهما إرضاء وتأمين ما يحتاجه القارئ السوري من حاجات فكرية ومعرفية والثاني الارتقاء بالمادة الثقافية المقدمة من خلال الاختيار والتركيز على هذا الجانب وذلك عبر نشر الدراسات والكتب التي تتناول جميع جوانب المعرفة الإنسانية، وفي الحقيقة، إن دور النشر تعمل جاهدة لتوصيل الكتاب بأقل سعر ممكن للقارئ كإحدى وأهم مغريات توزيعه على الأقل وذلك لضمان استمراريتها.
* الأستاذ صالح شقير أحد أعضاء دار النشر عزا الأسباب الكامنة عن ابتعاد الإنسان العربي عن الكتاب لعوامل كثيرة:
**»إن انتشار وسائل الإعلام السمعية والبصرية التي بدأت تنافس الكتاب شيئا ًفشيئاً وارتفاع سعر الكتاب نسبة لمستوى الدخل المعيشي المتدني بالإضافة إلى طغيان النمط الاستهلاكي لدى الغالبية العظمى من أفراد المجتمع وتشييئ القيم كانت وراء تشكيل فراغ عميق بين القارئ والكتاب»
*وقد أجرينا حوارا ًمع الأستاذ الباحث والمترجم «ديمتري أفييرينوس» أحد أعضاء تحرير المجلة الألكترونية «معابر» المهتمة بقضايا الفكر والفلسفة قال فيه:
**» يمكن لكل امرئ أن يعزو ابتعاد القارئ عن الكتاب الجيد إلى أسباب مختلفة بحسب انتمائهم الفكري والاجتماعي والسياسي إلخ...
قد تكون هذه الأسباب صحيحة مجتمعة لكن السبب الرئيسي برأيي يعود إلى ما يمكن تسميته «الاستلاب المعلوماتي» بمعنى أنه باتت لدينا مصادر عديدة للمعلومات، فالصحافة اليومية والدورية والتلفزيون بقنواته التي لم تعد تحصى والإنترنت إلخ.. بما يمكن أن يوهم القارئ بأن هذه المصادر تغنيه عن الكتاب.
بكل أسف هذا الوهم يعكس خطأً معرفياً أساسياً تلتبس وفقاً له المعرفة الحقيقية بالمعلومات، فكأني كلما ازدادت مراكمة للمعلومات من أية جهة أتتني أزدادت معرفة!«
* لمَ ساد ـ في رأيكم ـ ولاسيما في الآونة الأخيرة فقدان الثقة بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة في تقديم المعرفة للذات الباحثة عنها؟
**المعرفة بنظري لا تنفصل عن كيان الإنسان بمعنى أن كل فعل معرفي لا يتحول من خلال فعل تمثل داخلي إلى جزء لا يتجزأ من كيانه، لا قيمة له على الإطلاق، لأني بدون عملية التمثل هذه أكون أشبه بذاكرة حاسوب تختزن المعلومات دون أن تعيد تشكيلها وإنتاجها بما يتناسب مع طبيعة الذات العارفة.
وقد كان الكتاب فيما سبق ـ وأعني الكتاب الجيد الذي يعكس مضموناً معرفياً حقيقياًـ يساعد على تأدية هذه الوظيفة المعرفية بحيث كان يشكل غذاءً أو مادة ً للتأمل والنظر العميق وبكل أسف لا يمكن لوسائل الإعلام الأخرى أن تنوب مناب الكتاب في دوره هذا إلا في حالات نادرة جداً يشترط فيها أن يكون للمتلقي هم معرفي في الأصل ولا يكون مستلباً للمعلومات كمعلومات...
*بصفتكم قد ترجمتم العديد من الأبحاث الهامة التي لم تتطرق إليها المكتبة العربية إلا في حالات نادرة، أين تجدون نقاط الضعف في مفاصل حركة التعريب والترجمة وما الكتاب الذي يفتقر إليه القارئ في هذه المرحلة؟
** مما لاشك فيه أن حركة الترجمة اليوم في بلادنا لا يمكن أن تقاس بنظيراتها في العالم المتقدم. لقد تأسست هذه الحركة هناك أولاً على ترجمة كلاسيكيات الفكر العالمي من جميع العصور والبلدان (لن نتطرق إليها تفصيلياً(.
حتى إن هناك ترجمات عديدة للعمل الكلاسيكي الواحد يضفي كل منها عليه إبداع المترجم الخاص وفهمه وذائقته الشخصية بينما نحن اليوم نتهافت على ترجمة مفرزات الحداثة في الغرب التي لا يمكن فهمها إلا بفهم السياق أو الإطار الثقافي الذي نشأت عليه.
ولاشك أن الكثير الكثير من مفرزات الحداثة يفتقر إلى الهم الوجودي والأصالة المعرفية بمعنى أننا قلما نجد كتاباً يعنى بالأسئلة الكبرى التي طرحها الفكر الإنساني على نفسه.
ونحن نفتقر إلى مترجمين عن لغات أصلية كثيرة ولاسيما الألمانية والأسبانية و اليابانية، ناهيك عن اللغات القديمة كالأغريقية واللاتينية والسنسكريتية التي كتبت فيها روائع حقيقية تنطوي على عمق الحياة وتشكل مدداً للأسئلة الوجودية الكبرى.
* هل تعتقدون أن الجهاز الرقابي سيستطيع ممارسة نفس الدور الذي كان يلعبه سابقاً ولاسيما بعد أن أصبحت المعلومة تنتقل بسرعة أشبه بسرعة انتشار الضوء؟
**الرقابة اليوم لم تعد لها نفس فاعليتها السابقة بعد انتشار المعلومات على الشبكة العالمية بحيث أن كل إنسان يستطيع أن ينشر الفكرة التي يريد مهما كانت غبية أو متطرفة.
من هنا (ولاسيما بعد فشل الأنظمة التوتاليتارية بجهازها الرقابي المعقد) فإن لمفهوم الرقابة بعداً آخر.
إنه رقابة الذات على الذات التي معيارها الأوحد هو الإخلاص للحقيقة والشعور بمسؤولية الارتباط الإنساني.
من هنا فإن مسؤولية الرقابة الذاتية تتمثل في طرح الفكرة المخلصة للحقيقة والناضجة أخلاقياً بما لايضيف إلى فوضى العالم فوضى جديدة وإلى بلبلة الناس المزيد من البلبلة.
والفكرة المخلصة للحقيقة هي التي تخاطب في الإنسان أسمى ما فيه، «تؤنسنه» إن جاز التعبير على النقيض من الفكرة المبتذلة التي تخاطب غرائزه ونزعات العنصرية والعنف والفوضى فيه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 166