ماذا تقول يا صاحبي؟.. «الحس بالجلد»

■ كالعادة ينشغل الأهل أيام الامتحانات بدراسة أبنائهم، وتغدو البيوت قاعات دراسة وتحضير و «تسميع وتحفيظ»، ويصبح كثير من الأهل أكثر من تلاميذ «شرف» بل تلاميذ حقيقيين يتعبون ويجدون وكأنهم هم الذين سيقدمون الامتحانات. ونحن اليوم في مواسم الامتحان.

■■ هذا جانب من الموضوع.. وهناك جوانب أخرى لم تذكرها وهي متعددة منها أن كثيراً من أبنائنا الطلاب يواظبون على دراستهم ويقدمون امتحاناتهم دون أن يربكوا الأهل أو يسببوا لهم  الهم والضيق.. ومنها أيضاً أن بعضهم يبادر إلى مساعدة أهله في أعمالهم إلى جانب دراسته وتحصيله.

■ أنا لا أنكر ذلك... فالطلاب أنواع ومستويات.. وليس كل «الطلاب» طلاباً.

■■ هذا الكلام يذكرني بما قاله أبو عثمان الجاحظ في كتابه الرائع «الحيوان» وهو يصف الطير فهو يقول:

«وليس كل ماطار بجناحين فهو من الطير، قد يطير الجعلان واليعاسيب والذباب والزنابير والجراد والنحل والفراش والبعوض والأرضة وغير ذلك ولا يسمى بالطائر».

■ وكذلك الحال بالنسبة إلى الرجال.. فما كل الرجال رجال.. على حد قول السير والحكايات الشعبية.. والحكايات الشعبية كما تعرف هي قناة هامة من قنوات نقل المعارف والمعلومات وتكريس القيم الأصيلة التي تشد أزر المجتمع لينهض بقوة وقدرة ليتابع دربه نحو ا لأجمل والأفضل.

■■ وماالذي دعاك لتقول هذا الكلام؟

■ دعاني لقول ذلك حكاية قديمة مازلت أذكرها، رواها لي والدي وأنا في مقتبل العمر، تصور قيمة أصيلة نعتز بها ـ رغم صعوبتها هذه الأيام ـ  هي قيمة الحفاظ على الوعد والعهد، واحترام الإنسان لما يقول... فالإنسان كما يقال عند كلمته.

■■ لقد أثرت رغبتي في معرفة هذه الحكاية... فهات أسمعني الحكاية.

■ تقول الحكاية: مرت على البلاد عام 1919 حالة قحط وجفاف واشتدت حاجة الناس إلى الغذاء وبخاصة القمح.. فاندفع تجار الحبوب إلى الأرياف القريبة والبعيدة للحصول عليه. وذهبت مجموعة منهم إلى بلدة «القريا» في جبل العرب حيث التقوا في المضافة سلطان باشا الأطرش وبعد الترحيب والسلام وجسن الاستقبال طلب التجار حاجتهم من القمح فقال لهم: كم تدفعون ثمناً للمد الواحد، قالوا: ندفع «مجيديين» وكانت الليرة الذهبية تساوي يومها خمسة مجيديات. قال وكم تريدون. قالوا مائة مد. قال: اتفقنا. وبعد ساعتين وفدت مجموعة أخرى وطلبت شراء القمح... فقال لهم: وكم تدفعون ثمناً للمد؟ قالوا : ندفع ليرة ذهبية لكل مد. ونحن بحاجة لمئة مد. قال اتفقنا. وبعد أن تناولت كل من مجموعتي التجار العشاء جاءت مجموعة ثالثة للغرض ذاته ودار بينها وبين سلطان الحديث ذاته: كم تدفعون.. وكم تريدون؟ فقالوا: ندفع ليرتين ثمناً لكل مد ونريد مائة مد. واتفق الطرفان على السعر والكمية وتناول الوافدون الجدد عشاءهم وخلد الجميع إلى النوم في دار المضافة.

■■ وماذا حدث في الصباح؟ ومن اشترى القمح؟

■ عندما التقى الجميع وسمعوا من بعضهم ماجرى من اتفاقات في الليلة المنصرمة همّ من دفع «مجيديين» ومن دفع ليرة في المد للرحيل ظناً منهم أنهم لن ينالوا طلبهم لأنهم دفعوا الأقل. لكن سلطان باشا سارع إليهم وخاطب الجميع قائلاً: مااتفقنا عليه سوف يتم كما اتفقنا وسيحصل كل منكم  على طلبه وبالسعر الذي اتفقنا عليه معه... «فالرجال عند كلامهم» ونفذ الاتفاق بحذافيره.

■■ جميل هذا الموقف الأصيل..... وطبيعي أن يحظى بإعجاب وتقدير هؤلاء التجار.

■ لقد أدهشهم هذا الصنيع ـ وهم أهل بيع وشراء ومساومة وتكسب وأرباح فقال بعضهم: مافعلته لايفعله إلا أبناء بيوت الأجداد الأمجاد الأجواد وقال آخرون: إن مافعلته هو الجود والكرم والنبل بعينه وذاته.

أما سلطان فقال: إن ما فعلته إنما هو الحس بالجلد!! فماذا تقول يا صاحبي؟!!

■ محمد علي طه

 

 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.