فيكتوريا الشهال لم ولن يتعبها النضال

لم تكن فيكتوريا منصور نعمان، من بيئة يسارية. فقد ولدت في العام 1921 من عائلة مسيحية، بعد سنوات من انتصار الثورة البلشفية في روسيا. وهناك تعرفت الفتاة إلى المناضل الماركسي حسين الرحال وأخته أمينة، أول عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي في ما بعد. أعجب الرحال بموهبة فيكتوريا الخطابية والكتابية. فاستكتبها في جريدة «الناس» البصراوية، لتتسلم بعد ذلك تحرير الصفحة الثقافية.

لم تكن في البصرة أي ثانويات في ذلك الحين. فتوجهت فكتوريا إلى بغداد لتمكث عند أختها المتزوجة في بغداد، حتى أدخلها حسين الرحال، الذي كان قد أصبح مديرا للإذاعة، إلى ملاكها، لتصبح بذلك اول مذيعة عربية. كان الشيوعيون قد بدأوا بالانتشار، لكن لم يكن هناك إلا «الخلايا الماركسية» بعد في عراق الحرب العالمية الثانية. في العام 1941 كانت الرفيقة فيكتوريا ترسل صوتها بأخبار العالم المشتعل: قوات المحور، هتلر، حصار موسكو، معركة ستالينغراد. وعندما كانت تصل في قراءتها للأخبار إلى كلمة «موسكو» كانت نبرة صوتها ترتفع فجأة. كأنها بفعلها ذاك إنما تهب الرفقاء في معركتهم بعيداَ، عزماً إضافياً من صوتها الفتي الشغوف وثقة من مخارج حروفها. ليصبح «موسكو». اسماً ثانياً لها كما كان يحلو لمعجبيها المتحينين خروجها منذ الصباح مناداتها، فترد عليهم تحيتهم.

قرأت «الرفيقة» فيكتوريا ماركس وفهمته. أفهمها ان الإستقلال الإقتصادي هو بداية الحرية. طبقت ما قاله في حياتها الفردية، فتحققت من صدق ما قال. لم تنس له فضله ذاك أبداً. 

في منتصف الأربعينات أوفدت إلى الشام مع وفد من المحاميين وهي المرأة الوحيدة بينهم، وثالثة خريجة حقوق في العراق. لم تكن تنوي البقاء، لكن الإقامة في الشام أعجبتها. هناك تعرفت إلى تلميذ طب لبناني هو الشيوعي قصدي الشهال. عرفها به زميلها المحامي العراقي حسين جميل أحد المناضلين في «الحزب الوطني الديموقراطي» العراقي، فكان الحب. بقيت هناك ما يقارب الثلاث سنوات أصبحت خلالها شديدة القرب من الحزب الشيوعي السوري. ثم عادت عام 1947 إلى بغداد، لتؤسس مع آخرين «عصبة مكافحة الصهيونية» التي أصدرت مجلة «العصبة»، ليلقى عليها القبض بعد ذلك في إطار حملة النظام الكبرى ضد الشيوعيين في 1949، والتي أعدم فيها «فهد» أو يوسف سلمان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي. سجنت وحوكمت، وكاد مصيرها أن يكون الإعدام لولا فكرة تفتق عنها ذهن محاميها حسين جميل. لقد كان على قصدي أن يتزوجها ليمنحها الجنسية اللبنانية وبذلك تنفذ من حكم الإعدام. وهكذا كان. خرجت فيكتوريا من وطنها العراق ولم تعد إليه أبداً. 

في لبنان، لم تمارس المحاماة. قالوا لها في السرايا إن المكان ليس للنساء. فأتجهت إلى التعليم. وهناك كان لي، مثل كثير من تلامذة ثانوية الغرباء للبنات، شرف التعرف إليها. لم تكن ريادة فيكتوريا الحقيقية في كونها «أول من»، لكن بأسلوب حياتها وشغفها المعدي، بمثابرتها الدؤوبة وشجاعتها الباهرة. من دون كلل ولا ملل تابعت نضالها. وحين كانت الحرب الأهلية تعصف في طرابلس، وحين استولت الحركات الإسلامية المتطرفة على الساحة الطرابلسية، حين لم يكن هناك من يجرؤ على التلفظ بكلمة شيوعي في المدينة السائبة للقتلة، كانت فيكتوريا تتقصد أن تطوف على المكتبات سائلة عن جريدة «النداء»، ومعنفة أصحاب المكتبات لأنهم يمتنعون بخوفهم عن توزيعها. 

لم تتعب أم تميم. لم تتعب من طرق المسلحين على باب بيتها في منطقة «أبي سمراء» وملاحقتهم لتخويفها وحثها على الرحيل. كانت تضحك وهي تروي كيف أن أبنتها نهلة «مسؤولة التنظيم» عادت إلى المنزل في أحد الأيام ومعها... مدفع هاون وضعته في الصالون. لم يكن صالوناً هذا الذي صورته أبنتها الصغرى رندة في الوثائقي الرائع «حروبنا الطائشة» والذي وثق لحياة البيت الإستثنائي. لم تتعب ام تميم. تروي أبنتها البكر نهلة كيف ان والدتها منذ سنوات أصرت على احد الشيوعيين العراقيين الذي زارها في طرابلس ان يقبض منها ما تراكم عليها من إشتراكات للحزب خلال.. أربعين عاما من غيابها! 

 

لم تتعب الفتاة ذات العينين الخضراوين، وستبقى رمزاً من رموز النساء الشيوعيات.