«وداعاً لينين»: حنين سينمائي يترك أسئلة كبيرة؟

اختلف النقاد والدارسون السينمائيون في العالم بشكل كبير حول قراءة فيلم «وداعاً لينين».. وانتقل هذا الأثر إلى دمشق خلال عرض الفيلم في مهرجان دمشق السينمائي، أثار الفيلم الذي أخرجه السينمائي الألماني وولفغانغ بيكر، الكثير من الأسئلة فالبعض رأى في هذا الفيلم فيلماً معادياً لمرحلة بينما رأى فيه البعض الآخر وداّعاً يليق بقائد اول ثورة اشتراكية في العالم، لم يكن التقييم أو الاختلاف يأخذ من جهة الصورة أو التقنيات السينمائية المستخدمة في الفيلم بل كان الفيلم يتحدث عن الموضوع.

إلأّ أن الأكيد أن الفيلم أحدث نقلة نوعية في طريقة طرح اليسار عموماً، فاستطاع أن يسجل لحظة جميلة وحميمة وحزينة، سمحت في وداع الرجل الذي كان احد الذين الهبوا مخيّلة كثيرين بحلم الثورة فلاديمير ايليتش أليانوف «لينين». ربما جاء الفيلم ليصور آخر اللحظات المسروقة من زمن ولج فيه الكثيرون في زحمة حلم جميل وقصير، وما زال الكثيرون يعملون للعودة إليه.

يطرح الفيلم أسئلة هامة: هل اختار العالم البربرية؟ ام اننا نعيش فاصلا نودّع فيه الماضي بأخطائه وخطاياه، كي نستطيع مواجهة البربرية برؤية انسانية جديدة؟ 

يثير الفيلم أحزاناً دفينة في ثنائية الكوميدي تراجيدي، وفي مزاوجته بين الحقيقة والخيال. يحكي الفيلم حكاية بسيطة عن عائلة صغيرة مؤلفة من أم وابن وابنة. هرب الزوج في زمن من برلين الشرقية عندما كان ابنه طفلاً. بينما تابعت الام حياتها في برلين الشرقية، ولم تلتحق بزوجها، وركّزت اهتمامها على عملها كمدرّسة، وعلى تربية ولديها تربية اشتراكية. 

يبدأ الفيلم مع التظاهرات الصاخبة التي اجتاحت برلين الشرقية عشية سقوط الجدار. يُضرب الابن بوحشية ويُعتقل مع عشرات الشبان والشابات، بينما تسقط الأم صريعة أزمة قلبية أودت بها الى الغيبوبة. 

يسقط الجدار وتتوحد ألمانيا خلال غيبوبة الام. وعندما تسترد المرأة وعيها، ويتقرر إعادتها إلى المنزل، يحذّر الطبيب ولديها من دقة وضعها الصحي وهشاشته وضرورة ألا تتعرض لأي صدمة عاطفية والتي قد تودي بحياتها. 

لكن ما الذي سيحل بتلك المرأة التي أفنت حياتها في خدمة الشيوعية إن عرفت بانتهاء الحكم اليساري في ألمانيا.. ستكون تلك نهايتها.. 

هنا تدب الحياة في الفيلم. يعيد الابن تأليف العالم لأمه. فيأتي الأصدقاء لزيارة الأم بألبستهم الشيوعية القديمة، تلامذتها يلبسون «فولارات» الطلائع ويغنّون لها الأغاني الاشتراكية. ثم يقوم الابن مع أصدقائه في مغامرة لإعادة تشكيل الإعلام... فيسجلان نشرات أخبار وهمية، تشاهدها الأم على التلفزيون في غرفتها. 

عالم المرحلة الشيوعية الذي تهاوى دفعة واحدة، وحلت مكانه رموز الرأسمالية وأنماط حياتها، يعاد تأليفه من جديد، كأن شيئا لم يكن. ويصل التوليف الى ذروته حين يعرض الابن لأمه مشاهد عن تحطيم الجدار والعبور بين شطري برلين، وكأنها ثورة قام بها  الألمان الغربيون من اجل الاتحاد مع ألمانيا الشرقية والخلاص من البطالة والفقر عبر الالتحاق بـ «الجنة الاشتراكية». 

يعاد تأليف التجربة الاشتراكية من اجل الأم. الحرية بدل القمع، والتعدد بدل الواحدية، والكلام بدل الصمت. اشتراكية مشتهاة، لم تجد طريقها إلى التطبيق، في اطار من الهزل والسخرية والحنين. 

الابن الذي شارك في التظاهرات التي أسقطت الجدار، يعود إلى المرحلة الشيوعية بالحب الكبير لأمه. الحب وحده ينقذ ذاكرة الماضي من التحول ركاما، ويعيد بناء الزمن الاشتراكي كي يكون قريبا من صورته عن نفسه،  كحلم وليس ككابوس. 

وكان أكثر المشاهد قوة وقدرة على الكلام هو المشهد الذي تخرج فيه تظاهرات تحطيم جدار برلين. فيقوم المخرج بإعادة الزمن وإعادة صياغة ورسم الصورة، لتحكي قصة مختلفة فالصور التي أعلنت للعلن بداية انتهاء زمن الاشتراكية، يعاد تركيبها من اجل أن تعلن العكس. فيقول هذا المشهد الكثير وقد يثير في نفوس الكثيرين أزمة وجودية، مشيرا ليس إلى خدعة الصورة فحسب ، بل إلى خدعة التاريخ أيضا، الذي يقذفنا دائماً إلى أماكن مجهولة. 

هل التاريخ هش وسريع العطب إلى هذا الحد؟

كانت طائرة مروحية تجوب سماء برلين، حاملة النصف الأعلى لتمثال قائد الثورة الاشتراكية.

لينين يطير فوق برلين، والشعارات يتم استبدالها. بدل الصور الايقونية للقادة الشيوعيين التي كانت تحتل الشوارع، جاءت أيقونات الاستهلاك الرأسمالي: الكولا والهمبرغر والى آخره... 

المرأة التي شاهدت التمثال الطائر لم تع ِماذا يجري. صدقت أفلام الفيديو التي صنعها ابنها وكذبت عينيها. صدقت الأم الكذبة، لأنها هي أيضا كذبت على ولديها. في إحدى لحظات الفيلم الحميمة تروي المرأة انها كذبت حول هجرة زوجها. الرجل لم يتركها مع طفليها مديرا لهم ظهره. اتفق معها على ان تلحق به، لكنها خافت وترددت: «كان هذا اكبر خطأ في حياتي»، قالت المرأة، وتحدثت عن رسائل الزوج التي اخفتها عن ولديها. 

لقاء الابن بأبيه، بعد توحيد برلين، لا يحتل سوى مكان هامشي في الفيلم. لن يستطيع الرجل، الذي أعاد بناء حياته وتزوج من جديد وأنجب، ان يفعل شيئا أمام تدفق الحب الماضوي الذي يؤطّر الفيلم. ولن يكون سوى احد شهود نثر رماد الأم فوق سماء برلين، بعد وفاتها. 

ماتت المرأة سعيدة بوهمها عن انتصار الشيوعية، لم تعرف الحقيقة لأنها حين كذبت اغمضت عينيها، وحين رأت فضلت أن لا ترى. 

الشيوعية الجميلة التي ولّفها الابن بأفلام الفيديو من اجل أمه، تعطي العلاقة بين الأم وابنها كثيرا من الحنان، وتقدم معارضة لسيل الكتابات والأفلام التي وجدت في سقوط التجربة مناسبة لتصفية الحساب مع توق الإنسان إلى الحرية، داعية إلى عبادة اله المال والقوة الذي لا يرحم. 

 

 ■ ع . س