أوراق خريفية..

يقول «أدونيس» في إحدى قصائده: «أحياناً قد يتسخ الضوء! كيف نغسل وطناً اتسخ فيه حتى الضوء ؟». من مفارقات القدر أن تكتب نصاً، أقصوصة ما...  وبعد مدة وجيزة تتجسد أحداث هذا النص على أرض الواقع! 

هل هو الاستبصار بالحلم؟ هل هي الحاسة السادسة؟ وما ينجم عنها من تنبؤات مازال العقل البشري عاجزاً عن معرفة كنْهها حتى الآن! منذ فترة كتبت نصاً وأرسلته لكم بعنوان: «... وإلاّ!» تتحدث عن معاناة موظف نزيه مع «محاكم التفتيش»! ومن المثير للدهشة والأسف معا، أن تُشخْصن وقائع معاناة ذاك الموظف كما وردت في ذلك النص؟

أتمنى عليكم في العددين القادمين من جريدة (قاسيون)  نشر الأقصوصتين «... وإلاّ!» و«تحت التصرف» على التتالي. مع رجائي الحار ألا تكون (البقية على الصفحة 11) إهداءً منا لما تبقّى من موظفين مازالوا يؤمنون بأن العيون وحتى التعبة منها، تقاوم المخارز والخوازيق أيضاً...

■ ضيا اسكندر - اللاذقية

«..... وإلاّ!»

جميع زملائه في الدائرة أصابهم الحزن عندما ودّعهم فرداً فردا... فقد بلغ الستين من عمره، وأحيل على المعاش...!

خمسة وثلاثون عاماً قضاها في عمله الوظيفي، كان خلالها رمزاً للنزاهة والتفاني وحب العمل. سجلّه الذاتي حافل بالمكافآت والثناءات.. يخلو تماماً من أية عقوبة..

آخر العبارات التي قالها وهو يودّعهم: أمانة يا جماعة! خصمو الله اللي يحتاج أيّ تفسير، أيّ رأي،... أي شيء ولا يطرق بابي... كلكم تعرفون رقم هاتفي وعنوان سكني.. 

بعد ثلاثة أيام، طُرق بابه! تهلل جذلاً.. سارع لاستقبال أحد زملائه.. كان الطارق شاباً في الثلاثين من عمره, لم يسبق أن رآه في حياته...!

■ هنا بيت السيد عبد الله نعمان؟

●● أي نعم حبيبي تفضل!

■ أنا مفتش من الجهاز المركزي..!

●● أهلاً وسهلاً تفضل..

المخابرات والمفتشون ولجان قمع سرقات الكهرباء... أكثر ما كان يخيفه طوال عمره...

اشتعل رأسه بالهواجس والتساؤلات.. (ما سرّ هذه الزيارة؟ تُرى، هل أخطأت عن غير قصد في سالف الأيام؟! لو لم تكن فعلتي كبيرة لما حضر إلى بيتي للتحقيق معي...) عشرات التوقعات تزاحمت في عقله وهو يستقبل المفتش ويطلب منه الجلوس! 

■ إحم إحم.. أولاً، الحمد الله على السلامة!

●● الله يسلمك، عقبى لكم.. ولكن بعد عمر طويل إن شاء الله!

■ يا سيد عبد الله! أنا آسف جداً أن أبلغك أنه ومن خلال الانتقاء العشوائي للملفات... وقع الاختيار مصادفة على ملف، أنت ضليع، بل لنقل متورط به..! وساهمتَ بفوات ربح على الشركة مقداره أكثر من (100) ألف ليرة.. وسوف يتم إحالتك إلى محكمة الأمن الاقتصادي! وأنا قادم إليك لأنصحك بأن تشمّع الخيط وتهرب من هذه البلاد، إذ من غبر المعقول أن تتبهدل وتتشرشح بآخر العمر...!

وكأمّ جاءها شرطيّ على حين غرّة، يخبرها أن طفلها الوحيد والذي ربّته كل شبر بندر، قد دهسته سيارة عابرة وشقّفته تشقيفا..! أُصيب عبد الله بدوار، وزاغت عيناه وبدأ يرتعش وغشاه إغماء قصير... تراءى له خلاله شيخاً مكللاً بالبياض قادماً من السماء وقد علقت به بعض الغيوم البيضاء يقترب منه رويداً، ويمدّ يده ويبدأ بغرز أصابعه في جهة القلب..!! تهالك على الأريكة وطفق وجهه يتصبب عرقاً بارداً..! (الحقّ على زوجتي التي أجبرتني على طعام العشاء..! مئة مرة قلت لها طعام العشاء يجب أن يكون خفيفاً ! ثلاثون عاماً من العيش المشترك ولم تفهم عليّ!  لولا طبخة الملوخية اللعينة مع الرز لما حلمت بهذا الكابوس المرعب..!) حاول إقناع نفسه بأن ما يجري معه لا يمكنشش أن يكون حقيقياً أبداً..!

●● سيد عبد الله! ... سيد عبد الله! ما بك؟ هل تسمعني؟ هل أصابك مكروه؟ أتعاني من شيء؟!!

وكنائماً أُلقي عليه إبريق ماء، استفاق كالملسوع وأجاب دونما إبطاء: 

■ لا.. لا أبداً! تفضل، ماذا كنت تقول؟!

●● كنت أقول، أعني كنت أنصحك بأن تفكر بالهجرة إلى بلد آخر... الحقيقة أنه يصعب عليّ كثيراً جرجرتك في هذه الفترة العصيبة من حياتك إلى حيث لا يليق بك... أنت كهل وقور ولك سمعتك واحترامك... ولكن لكل حصان كبوة.. وهذه الكبوة ستكلفك غالياً يا سيد عبد الله!... الله يعينك!

■ اعذرني يا ابني! والله لست فاهماً عليك أبداً..! ملف شو.. متورط بشو.. ؟؟ !! أنا طوال عمري الوظيفي معروف بدقتي وحكمتي وإخلاصي... من أين أتيت بهذا الملف الذي تحكي عنه؟!

●● الموضوع قديم إلى حدّ ما، ولكن أنت تعلم أن مدة التقادم على الجرائم أطولها خمسة عشر عاماً.. والملف الذي بين يدي، لم يسقط بالتقادم بعد..! على كل حال، سوف أساعدك، فأنت جدير بذلك.. ولكن كما تعلم، الموضوع صعب وعويص جداً ويحتاج إلى هزّ اكتاف..

■ يا بنيّ! يا أستاذ! ياحبيبي! لا أذكر مطلقاً أنني ارتكبت خطأً جسيماً يستوجب مساءلتي وإحالتي إلى المحاكم..!

●● سوف أذكّرك، منذ مدة ليست بعيدة جداً، تقدم أحد المتعهدين بنسبة كسر على مناقصة أعلنتها شركتكم ولم يتم قبول عرضه بحجة عدم استكمال أوراقه الثبوتية... ولو أنكم أعطيتموه مهلة لاستكمال النواقص، لكنتم وفّرتم على الشركة مبلغاً ينوف على الـ (100) ألف ليرة.. 

■ والله يابنيّ! لا أذكر تفاصيل الموضوع... ولكن بشكل عام أقول: القانون لم يلزم لجنة المناقصة على إعطاء العارضين مهلة لاستكمال أوراقهم... 

●● ما اختلفنا.. ولكن كان عليكم توخّي المصلحة العامة.. على كل حال، كل مشكلة ولها حل.. أعتقد أن كلامي واضح.. مو؟

■ ماذا تقصد؟!

●● والله أنت أدرى الناس! نحن الآن بصدد مكافحة الفساد في كافة أرجاء الوطن و...

■ (مستهجناً) وبدأتم معي؟؟!!

●● حظك هكذا... يفلق الصخر, شو بدّك تعمل..! على كل حال كل مشكلة ولها حل...

■ المطلوب؟؟!

●● يمكنني، بل يمكننا طيّ الملف... ولكن ذلك يحتاج إلى تعاون من قبلك.. 

■ حددْ بدقة مطاليبك، أرجوك!

●● خمسون ألف ليرة.. ولا من شاف ولا من دري.. معك خمسة أيام تفكر بالعرض.. فكّرْ على مهلك..!

ثم استأذن وانصرف... 

شعر بالقنوط العظيم، بالمهانة، بتفاهة العالم... لأول مرة في حياته عرف أهمية الإيمان بالمعجزات والقدر..

اتجه عبد الله بيديه نحو السماء متضرعاً: (أيها الشرفاء من المحيط إلى الجحيم.. أيها الأنبياء.. أيتها الملائكة.. يا أرباب الكون! قولوا لي بربكم ماذا أفعل؟!)

 زمجرت السماء! وعصفت الرياح الشديدة بنافذته وفتحتها على مصراعيها، اقترب من النافذة ببطء، وتمسّك بقضبانها، وبدأ رذاذ المطر يداعب وجهه وما تبقّى من شعر على رأسه... تأمّل طائر السنونو وهو يجوب سماء الطرقات المبللة بالحزن والتعب والأمل... حرّك نظره باتجاه الأريكة التي كان يجلس عليها المفتش.. وبدأت تتسرّب إلى أعماقه نسمات التحدي، وغمرته سعادة لم يذق طعمها من قبل... وباعتزاز، رضي أن يتمسك بقضبان السجون مستقبلاً ويحلم بالمطر الغزير الغزير...

■ ضيا اسكندر- اللاذقية  

 

  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.