أوراق خريفية.. «استقالة وزير»

تجشأ حامداً شاكراً ربه على النعم التي أُغدقت عليه بعد توليه منصبه. مبرراً قاعدة عدم إقدام أي مسؤول عبر التاريخ العربي، على تقديم استقالته بمحض إرادته، مهما كان السبب.

تمطى وتثاءب وفرك عينيه قليلاً والتفت يمنة ويسرة، وشعر برغبة في التحدث مع أي شخص.

لوح لمرافقيه الرابضين عند أطراف حديقته أن تعالوا...

هرع الجميع باتجاهه متحفزين لأية خدمة.. تفحص وجوههم فرداً فرداً وأشار إلى أصغرهم سناً بالاقتراب أكثر. وأومأ للبقية بالانصراف. فهرعوا إلى مواقعهم السابقة.

شبك كفيه خلف رأسه، ومال بجذعه إلى الوراء وسأله بابتسام:

■ كيف حالك؟

■■ (بفرح وسعادة) الحمد لله سيدي! الله يسلمك!

■ أجب بصراحة عن كل سؤال أوجهه إليك!

■■ حاضر سيدي أنا بأمرك!

■ (وضع سبابته على صدغه وإبهامه أسفل ذقنه متفاكراً وسأله): لو كنت مكاني ترفل بالعز والجاه، وطلباتك مهما كان نوعها مستجابة.. هل يمكن أن تفكر بالاستقالة؟

■■ معاذ الله سيدي! ما هذا السؤال؟! بالتأكيد لا يمكن أن أفكر بذلك..!

■ طيب! لنفترض بأن ثمة ضغوطاً مورست عليك لتنفيذ خطط ما، أو مشاريع أو توقيع قرارات.. إلخ وأنت غير مقتنع بها...

■■ سيدي! أرجوك، إن صغر سني وحداثة تجربتي بالحياة.. تجعلني بعيداً عن الحكمة في الإجابة على أسئلتك..

■ (متصنعاً الغضب) أجب على قدر السؤال يا غبي!

■■ بأمرك سيدي! (مستدركاً) سيدي أي عاقل يمكن أن يخطر على باله تقديم استقالته،و هو كما تقول يعيش معززاً مكرماً ورغباته كن فيكون؟! بالتأكيد سيدي من غير المعقول، ثم أنا لم أسمع بحياتي عن مسؤول، مهما تدنى أو علا شأنه يُقبل على الاستقالة من تلقاء نفسه!

■ طيب، لنفترض أن عقوبة ما تنتظرك بعد فراغك من منصبك؟

■■ سيدي لماذا تناقش الاستثناء وتغفل القاعدة؟! كم عدد المسؤولين الذين تمت محاسبتهم؟ هم يسألون و لا يُسألون!

■ أجوبتك يا ملعون لا تدل على حداثة التجربة.. ذكرني ما هي شهادتك؟

■■ بكالوريا سيدي! ولم أستطع إكمال دراستي الجامعية لأسباب شتى...

■ طيب ما رأيك إذا قلت لك أنني عقدت العزم على تقديم استقالتي لأخرق القاعدة..؟

■■ سيدي أرجوك! لحم أكتافنا من خيرك! نحن من غيرك يتامى..؟!

■ لا تخف يا كر! ستبقى عندي، فأنا أرى شبابي فيك. والآن انصرف ونادي على معلمتك للحضور إلى هنا.. هيا!

(ينصرف مهرولاً باتجاه الفيلا.. وبعد لحظات تصل السيدة حرم الوزير وأمارات الغضب تعلو وجهها بعد أن أخبرها المرافق ما حصل) وفور مثولها بادرته متسائلة:

■■ ماهذا الذي سمعته؟ ماذا بك؟ هل صحيح أنك تنوي الاستقالة؟!!!

■ نعم، لقد اتخذت هذا القرار منذ لحظات.. وأنا راض تماماً عن هذا القرار...

■■هل أنت معتوه؟!!! أكاد أشك بيقظتي!! حبيبي ماذا دهاك!!! هل تشكو من شيء؟!!

■ أبداً.. أنا بكامل قواي العقلية، وعليك تقبل الأمر، ومساعدتي على تنفيذه..

■■ وهل تعتقد أنهم يسمحون لك بتقديم استقالتك؟! اسمع حبيبي! أن ُتقال شيء، وأن تستقيل شيء آخر. أن تموت شيء ، وأن تنتحر شيء آخر..!! أرجوك اصرف النظر عن هذا الموضوع ولا تكن أحمق وتساهم بتأسيس تقليد غريب وبعيد كل البعد عن عاداتنا وتقاليدنا في تنحية المسؤولين! ثم إنني مازلت غير مصدقة!! ماالذي اعتراك فجأة؟!.. هل تريد أن ينطبق عليك مثال من يلبط نعمته...

■ (مقاطعاً بحدة) ما هذا الكلام؟ لست بحاجة لمحاضرتك المقيتة يا مدام! سأبرهن للجميع أنني زاهد بالسلطة. هكذا قررت، وهكذا سأنفذ!

■■ ولكن منذ ساعة كنت بكامل عقلك! ماذا جرى لك؟! هل أكثرت من الشراب كعادتك؟.. مائة مرة قلت لك الويسكي يجعلك غريب الأطوار...! تارة تبكي، وتارة تضحك وتارة تريد تكديس الثروة بغضون أيام، ثم تفكر بتوزيعها على الفقراء كالمجنون... والآن، وصلت بك الأمور إلى حد التفكير بالاستقالة؟! يا إلهي أكاد أجن!! (تمد كفيها إلى رأسها وتعصره بشدة تعبيراً عن حالة الصداع التي انتابتها).

وهنا انفجر الوزير ضاحكاً حتى كاد أن ينقلب عن كرسيه، وقام فاتحاً يديها وهم بحملها إلا أن وزنها الثقيل منعه من ذلك فاكتفى بضمها وتقبيلها مهدئاً روعها قائلا: وهل تعتقدين أنني مجنون يا حبيبتي!! لقد كنت ضجراً وأردت تمثيل هذا المشهد المسرحي... ولعي بالتمثيل لا حدود له.. كل الأفكار التي أطرحها أمامك، ماهي إلا هواجس مسرحية كنت في يوم من الأيام أنوي كتابتها وتمثيلها. والآن هيا معي لنطعم الكلاب ونستمتع بمشاهدة الطاووس الذي قدمه لنا صديقنا العزيز رئيس غرفة التجارة....

(يمشيان الهوينا متخاصرين، ويتناهى إلى سمع المرافقين بعض كلمات العتاب من المدام راجية بعلها ألا يكرر هذا المزاح الثقيل مرة أخرى).

 

■ ضيا اسكندر ـ اللاذقية