عن الوطن.. ويوسف عبدلكي

 في باريس وعلى أرصفة مونمارتر وحي مومبارناس وشارع البيغال فوق هذا الخراب المؤجل ونظائره في الأحلام المؤجلة، في هذا النسيج المتعفن الذي أحل لعنة الموت والخلود على بودلير ورامبو وفان كوخ وإليوت وأندريه بروتون.. وعبر موشور الحياة السريعة، هذا الكم الهائل من الخوف والرعب واستحضار الممكن من مفردات البقاء، حطت الطائرة التي تقل يوسف عبدلكي..

في غفلة من الوقت والوطن ورائحة الياسمين في حارات دمشق... الحقيبة الصغيرة التي احتوت على أقلام الرصاص واسكيتشات الرسم وصور الكاريكاتير ومشاريع الرسائل التي لم تصل  إلى أصحابها وأحجار وأسمال بالية.

وفي جيب السترة الممزقة جواز السفر الذي استخرج على عجل من مكاتب الأمم المتحدة في دمشق.... وفي الذاكرة خلف تقاطيع الوجه الحزين ليوسف عبدلكي أجندة طويلة تنتهي بطريق العودة إلى الوطن الذي يتأرجح دائماً في خفقات قلبه...

ولمناسبة الحديث عن الغائب الحاضر في خارطة التشكيل السوري وحالات الاختلاف مع الغرب.. مقاربة مع الاحتفالية التي تقام هذه الأيام في غاليري «بريفال تال» بمدينة سان بول غرب فرنسا حيث يستحضر بلاد الاغتراب المبدع يوسف عبدلكي في مجموعة من الأعمال الغرافيكية التي برع فيها بقوة وفي تنويعة تبدأ وتنتهي بتقنيات الفحم والرصاص، وهو الذي غادر دمشق ولم يكن في خزانته الأكاديمية سوى إجازة من كلية الفنون الجميلة بدمشق قادماً إلى مدينة النور التي يحب ويخشى ويكره في آن معاً، حيث الانتفاع ببقايا جبنة الركفورد والمعجنات الفرنسية وبما هو بسيط وسطحي من أسباب الحياة حيث الارتياب في الأحياء الكبيرة التي تترتب فيها الحياة كل يوم بشكل مختلف،وتعصف في بيوتها تيارات الاختلاف بكل ما هو ثابت ويقيني وسط هذا السديم الغامض حقق يوسف عبدلكي دبلوماً في الحفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون في باريس وأتبعه بدكتوراة في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة.

واستطاع أن ينتشل نفسه من دوامات الاستهلاك والركود والارتهان لمدارس التشكيل الغربي وأقام عدة معارض شخصية في باريس وبيروت والقاهرة وتونس...

أما محبوه ومتابعوه في سورية فكانوا على موعد دوري مع الجديد من أعماله وباستئناس من السيدة منى الأتاسي وفي فضاء صالتها حيث كانت تحضر زوجته من باريس برفقة اللوحات...

ويعد عبدلكي الآن أحد أشهر فناني الحفر العرب وأبرز العاملين في ميادين الغرافيك وتصميم الملصقات والأغلفة والشعارات، كما ويعتبر من الفنانين المهمين في مجال الكاريكاتير حيث صدرت له عدة دراسات في الكاريكاتير العربي..

إلى ذلك يقدم لنا يوسف عبدلكي مثالاً مهماً في الالتزام بالحياة وإعادة ترتيب ما تبعثر من صفاتها الذهنية والاتجاه بآلية الإبداع إلى استصدار الفن الإنساني الرفيع مخرجاً إلى العلن كل ما تضج به روحه التواقة من الرموز الشرقية الأصيلة...

واستطاع في فترة مثالية أن يضع كل خوفه وارتيابه وتردده في الميزان وعجزه عن تحقيق التضحيات الكبرى...

وخلق عالماً نذهب فيه طويلاً ولا ننتهي... في زمن تتناهبه ثقافة الارتجال والانكفاء وتتوارى في ثناياه مساحات الصدأ والتحريف...

 

■ م. أنزو