د. الموسيقي غزوان زركلي: يجب أن نقيِّم أخطاءنا في الماضي

 ■ المشكلة الرئيسة في المنظومة الثقافية هي التعليم

■ ربما أعود إلى الاغتراب من جديد

■ يجب أن نكون منصفين في الحديث عن التجربة الاشتراكية

في العام 2001 تمت دعوة خبير موسيقي كان مغترباً في المانيا للعودة إلى الوطن، بكتاب رسمي موجه من وزارة الثقافة، ضمن توجه عام باستعادة الخبرات المهاجرة في مجموعة من المجالات، إلاّ أن الأمر لم يطل، ليبعد عن منصبه الذي تولاه لدى عودته من الخارج كنائب لعميد المعهد العالي للموسيقى.

الدكتور غزوان زركلي الحاصل على شهاداته وخبرته من أهم المعاهد والفرق العالمية، بات اليوم بعد صراع طويل يفكر جدياً بالاغتراب من جديد، وكان في صوته خلال حديثنا معه حزن، وعبر قائلاً إنه من المؤلم حقاً أن يشعر المرء بأنه لم يستطع أن يقدم لبلده شيئاً من خبرته أو من أحلامه. حول تجربته في المعهد العالي للموسيقى، والاغتراب والوضع الثقافي السوري التقت قاسيون الدكتور غزوان زركلي وكان هذا الحوار: 

■ هل ترغب في أن نتطرق في حوارنا عن وزارة الثقافة؟

●● عن ماذا سنتكلم إذاً؟

■ هل ترى أن هناك مشاكل في تجربة أو خطة وزارة الثقافة؟

●● المشكلة أنه ليست هناك خطة، والمشكلة أيضاً أنك لا تستطيع أن تقول أنه ليست هناك خطة حقيقية وملموسة، فعلى سبيل المثال قمت بإرسال مقال إلى إحدى الصحف عن المشاكل التي عانت منها وزارة الثقافة على مر سنين طويلة، تبين لاحقاً أن المقال لم ينشر لأن علاقة رئيس التحرير جيدة مع الوزارة القديمة، فعلينا أن نغفل تاريخ 21 سنة كاملة. 

الكثير من  الناس يحاولون أن يربطوا الأمور بشخص معين فيقال: الوزير الفلاني أو الوزير الفلاني. إلاّ أنني أرى أن الأمور ليست مرتبطة بشخص معين، وعندما أتحدث عن مرحلة فأنا لا أتحدث عن شخص.

ففي كل دول العالم يعاد النظر دائماً بالمراحل السابقة ويقدم تقييم للسلبيات والإيجابيات، والأخطاء التي حصلت، وبغير ذلك من المستحيل أن ينجز شيء، إلاّ أنه عندنا هناك رعب حقيقي من أن ينظر بعين ناقدة إلى المرحلة السابقة، وبهذا الخوف لا يمكن أن نتقدم أبداً.

وبالعودة إلى سؤالك إن كنت أريد الحديث عن الوزارة،  فإن من يريد أن يحكي عن الموسيقى لا يستطيع أن يغفل الوزارة، إن إغفال الحديث عن الوزارة، يغفل أي فكرة.

■ أين المشكلة في المنظومة الثقافية في الوزارة؟

●● اختصرالمشكلة بكلمة واحدة هي التعليم، تعليم الفن بكل صوره والموسيقى بشكل رئيسي تعتمد على تعليم المهارات منذ الصغر.. حلقات متكاملة كما الأمر مع المسرح المدرسي بالنسبة للمسرح فالأمر حلقة في دائرة متكاملة، في الفنون بشكل عام والموسيقى تحديداً، يجب أن تكون هناك دارة متكاملة، حتى بعد الانتهاء من الدراسة.

تعتبر وزارة الثقافة حديثة نسبياً فقد جاءت مع الوحدة وأسست في العام 1961 المدرسة الموسيقية الأولى في دمشق والثانية في حلب 63، وإلى اليوم لم تؤسس وزارة الثقافة أي مدرسة جديدة وبالرغم من أن الوقت في تسارع وعدد السكان في تزايد. وقد ظهرت هذه المدارس في  نفس الوقت الذي نشأت فيه الكثير من التصورات الهامة للثقافة المستقبلية للبلد كمشروع المسرح القومي أو المكتبة الوطنية، كل المشاريع خرجت إلى الورق في ذلك الوقت،وهي إلى الآن موجودة كوثيقة الخطة الخماسية لوزارة الثقافة في حينها. كان من المفترض أن تنشأ بعد المدارس الأولى مراحل أخرى وصولاً إلى المرحلة الثانوية، وفي العام 65 ظهر مشروع قرار  بإنشاء مدرسة ثانوية إلاّ أن ذلك لم يتم. ووصلنا إلى مرحلة لم نعد نستطيع أن نتراجع ، طريق مسدود.

■ ألم يكن يؤخذ برأي مختصين؟

●● سأقول لك ما كان رد الفعل، كنا قد تحدثنا أنا ومجموعة من المختصين الذين درسنا في الخارج في الموضوع ، ورأينا ما يحصل في الخارج، كما أننا عاصرنا مرحلة القرارات في الستينات، ولا ازال أذكر الكتاب المدرسي الموسيقي،  وقرأت نص المرسوم وأين اجتمعت اللجنة وكيف أقرت مواد الموسيقى، ماذا كان رد فعل الوزارة، فبدلاً من أن تتابع في إنشاء المدارس لنصل إلى نتيجة منطقية، أخذت قراراً بإنشاء المعهد العالي للموسيقى، في العام 91 دون تفكير.

■ ألا يسد المعهد العربي الثغرة التي تتحدث عنها؟

●● كلا لأنه مرحلة ابتدائية ولا يوجد مرحلة ثانوية فنظام المعهد 4 سنوات مرحلة تحضيرية، الأهم أن تكون هناك مرحلة ثانوية تسير مع دروس الطالب حتى البكالوريا، فالطلاب الذين يستمرون ليس إلاّ إجراء ترميمياً لأن لدى الطالب دراسته الخاصة. أما الثانوية الموسيقية، فيجب أن يكون لها طابع تخصصي تستطيع أن توائم بين أوقات التمرين والحفاظ على المواد الدراسية الاعتيادية، وبعد ذلك يستطيع الطالب أن يحترف الموسيقى في المرحلة الجامعية أو يتابع دراسته العادية، ويبقى له المجال مفتوحاً كي يقرر.

اختصرت المشكلة في التعليم، ايضاً يجب أن ننظر إلى الخلف ونرى الأخطاء حتى نستطيع أن نتابع إلى الأمام وأؤكد مرة أخرى على أنه يجب أن نوجه أصابعنا إلى مكامن الأخطاء لكي نتلافاها أما من يتغاضى عن هذه الأخطاء فكأنما يقول أننا لا نريد أن نسير أي خطوة إلى الأمام.

■ هناك من يقول أن مرد ابعادك عن المعهد هو نتيجة لمشاكل  شخصية؟

●● الجواب قطعاً لا وسأخبرك كيف تحدث ميكانيكية هذه الأمور، وتعود لعدة أسباب أولها اجتماعي فمجتمعنا اعتاد على الأمور الشخصية، وتعّود على المصارعة وليس التنافس الشريف، وفي الدرجة الثانية المشكلة احترافية فوجود هذه المطبات الشخصية سببها عدم الاحتراف،  لأنه لو كنا في مجتمع محترف لما حدثت هذه الأقاويل. فالتنافس موجود والإنسان هو نفسه في كل مكان، إنه أمر طبيعي لكن في بلد لا توجد فيه بنى تحتية أكاديمية، فإن المنافسة تتحجم بقواعد، ولها حدود غير مرئية ويصبح التأويل أسهل وله مساحة أكبر، إن عدم الإحتراف هو البؤرة المناسبة للفوضى ولتأويل الكلام والإشاعات، فقد جئت إلى مؤسسة جمعت هاتين الصفتين، والأساس أنه لا يوجد بنى تحتية احترافية.

فهذه المؤسسة لم يكن فيها أقسام نهائياً ولم تكن هناك مكتبة موسيقية حقيقية، ولا نظام امتحانات واضح، 35 خبيراً أجنبياً لم يكن لأي منهم مساعد سوري وهلم جراً. وهذه الأمور أساسية في حياة أي مؤسسة تعليمية، فعندما تضع هذه الأمور لتوضحها ومن ثم لتعالجها، سيكون رد فعل الأشخاص الموجودين سابقاً عدة احتمالات إما أن يقتنعوا بهذا الشيء ويعترفوا بالخطأ وربما قد يقول البعض أن هذا المعهد ما زال يخطو خطواته الأولى ولم يتجاوز عمره عشر سنوات وهذا كلام مقنع أو أنهم سيأخذون موقع الضد، وموقع الضد مستحيل أن يكون احترافياً أو أكاديمياً لأنك لا تستطيع أن تقول أن هذه الأخطاء التي تحدثت عنها ليست موجودة، ومن أبسطها مشكلة أنه ليس هناك أساتذة على الملاك، أو تقسيمات أكاديمية كي تصرف لبعض الأساتذة المدرسين والمشرفين، كان بعض الأشخاص يحرصون على أن يجعلوا من هذه الأزمة أزمة شخصية وظهرت وكأنها مع الأستاذ صلحي السبب بسيط أنها عندما جئت كان منذ 40 سنة في موقع الإدارة والقوة، فعندما يتفرد الإنسان لايستطيع أن يبتعد لغيره، كان الوضع أن المسؤولية متمركزة بيد إنسان واحد على مدى 4 عقود ومن هنا برزت الناحية الشخصية، ونحن لا ننفي إنجاز أو ما قام به الأستاذ صلحي الوادي، فنحن في موقع أكاديمي وعلمي لا نطلق تعميمات أو نقيم، لكنني أتحدث عن جانب  احترافي وأكاديمي بحت، وأنا أرى أن هذا عيب في وزارة الثقافة التي اعتمدت على شخص واحد اعتماداً كلياً لمدة 40 سنة، حتى هذا الموضوع حتى لا يثار، أسهل شيء أن تحول المشكلة إلى أمور شخصية، فعندما تقول هذا الكلام كذر الرماد في العيون عندها لا يستطيع المرء أن يرى شيئاً، 

■ جئت من ألمانيا بناءً على طلب رسمي من وزارة الثقافة بعد أن كان لك مركزك ومكانتك في ألمانيا لماذا لم ترجع وتتابع مسيرتك بما يتعلق بالجانب الفردي؟

●● قرار الاغتراب قرار صعب، والرجوع عنه قرار صعب، وقرار العودة لللاغتراب أصعب بكثير، وليس أمراً سهلاً أن يعود المرء بهذه السهولة، المهمة ليست صغيرة، بل هي بغاية الكبر، ولا تتم بسهولة. مذ أبعدت عن عملي في شباط 2002 ذهبت 4 مرات إلى ألمانيا، ولم أقم قطيعة مع الخارج، ويبدو أن الأمور تسير الآن باتجاه الاغتراب من جديد. وهو أمر يشوبه الكثير من الألم، وشعور  بالفشل، لم أستطع أن أعطي ما كنت أريد أن أعطيه، متى يكون القرار جازماً عندما تعرف أنه استحالة أن تستطيع أن تعطي أو تفيد، فبقاء المرء يكون غير واقعي أو كذب على النفس، فأنا ما زلت أتمنى أن يكون لي دور في تصحيح العجلة.

■ لقد أخذنا الكثير من هيكلية التعليم في المنظومة الاشتراكية، وخاصة في مجال الموسيقى، فهل تعتقد أن المشكلة لدينا تكمن في طريقة التطبيق أم في المنظومة نفسها؟

●● يجب أن نعطي التجربة الاشتراكية حقها ونكون منصفين، لقد انارت لأسباب عدة، لكن عندما يتم الحديث عن هذه الأسباب قلما يتم الحديث عن التعليم والثقافة والفن، إلى اليوم كلما تذكر النظم الاشتراكية، يذكر مديح العملية التربوية والتعليمة وخاصة في مجال الفن بكل أنواعه، وأعتقد أن هذا سيبقى قائماً. البلدان الاشتراكية في هذا المجال لم تعط منظومة خاطئة أو تحمل سلبيات مستقبلية، ونحن على العكس لم نأخذ مثلاً من البلدان الاشتراكية، لم نأخذ إلا هذه الهيكلية، بدأنا والخطة الخمسية هي شيء اشتراكي، ولم نستفد من التطور الهائل في المؤسسات التعليمية الاشتراكية.

■ هل ترى أي تطور قريب في مجال التعليم في سورية؟

●● أرى أن هناك إصراراً على عدم بحث الأسباب والمشاكل القديمة.

■  ألا ترى أنه ضمن تطورات سياسية معينة يمكن أن تفتح هذه الملفات ويتم الحديث عن  هذه الأسباب والمشاكل القديمة؟

●● أعتقد أن الأمر معقد قليلاً، لكنني ساقول لك أن عودتي من الاغتراب سببها جزء من التغيرات والنظر في الماضي، وجزء من سياسة الإصلاح وهذا ما نراه في كتاب وزارة الثقافة الذي وجه إلي والذي يحمل في طياته حديثاً عن دعوة لعودة المغتربين لإعادة البناء، وكانت جزءاً من المرحلة ونتمنى أن يستمر هذا الشيء، لكن في الوقت نفسه أقول أنه من المستحيل أن يتغير أي شيء إلى الأفضل إن لم نبحث عن السلبيات التي كانت في المراحل السابقة. ونستطيع أن نرى النتائج في الشباب الذي لا يجد فرص عمل، والشباب المحبط، وآخرون راغبون في السفر، هذه السلبيات يجب أن نبحث في ماهيتها ونعترف بوجود الأخطاء والتقصير أولاً وتحديد موقعه كي نستطيع أن نبدأ حتى لو كانت نقطة الصفر، ووعي وتقيم المرحلة ضروري للمستقبل.

■ ما رأيك في الفرقة الشرقية؟

●● جزء من الأغلاط الفظيعة .. التي سكت عنها طويلاً .. سورية بلد شرقي، كما أن قيادته السياسية تؤكد على الهوية القومية والتراث. وفي هذا البلد تهمل الموسيقى الشرقية إهمالاً هائلاً، وكان يعزى إلى شخص واحد، لكنني أرده إلى الوزارة، فشخص يحب موسيقى معينة، لا يستطيع أن يلغي مخططاً كانت وزارة الثقافة وضعته للبلد ككل، فلو كانت وزارة الثقافة وضعت مخططاً حقيقياً لتطوير هذه الموسيقى والسير بها إلى الأمام، لما استطاع شيئاًَ، وهذا هو الفرق بين ما هو شخصي وما هو مؤسساتي وأكاديمي، وأعتقد أن الاهتمام بالموسيقى الشرقية هم وطني ويجب الاعتناء بها.

■ ما رأيك بتجربة فرقتي الموسيقى الشرقية في المعهد الآن؟

●● إنها تجارب ناقصة لأنها لا تعتمد على قاعدة تعليمية عميقة، وهذا لا يتعرض لقادة هذ الفرق أو غيرهم، لكني سأعود إلى التعليم كما ذكرت سابقاً، فإن ألقينا  نظرة على أساتذة الآلات الشرقية في المعهد لوجدنا أنهما خبيران أجنبيان، وكل منهما، لا يستطيع عزف الموسيقى الشرقية فقط بل إنهما لا يفقهان في الموسيقى العربية شيئاً، ليس قصوراً منهما أو عدم خبرة، لكن مرد ذلك إلى أنهما لا يستطيعان عزف المقامات الشرقية لأن ليس في موسيقاهم ربع صوت كما أنهما يحملان ثقافة موسيقية مختلفة تماماً عن ثقافتنا العربية.

■ أليس غريباً ألا يكون هناك أي خبير عربي في الآلات الشرقية؟

●● بل الأغرب، هو أن الشباب أنفسهم لا يطالبون بحقهم، وقد تضرروا من هذا الوضع ويدورون في دوائر مفرغة، هناك شيء يقف ولا يتقدم.

■ هل تعتقد أن الإدارة الجديدة تستطيع أن تحقق تقدماً؟

●● لا أرى أي إعادة نظر.

■ أعتقد أنه باستقدام بعض الخبرات الجديدة، وبعض الخطط الموضوعة إلى الأمام قد توحي بشيء جدي إلى الأمام؟

●● حتى يكون حديثنا مركزاً وعلمياً فلنتحدث عن الموسيقى الشرقية، أين تكمن العلة الكبيرة، كانت بوجود أشخاص غير مختصين بالإضافة إلى رواتبهم الكبيرة، التي من الممكن أن تأتي بخبرات أفضل، فلننظر من هذه الزاوية فقط، وهي حسب اعتقادي - أي الموسيقى الشرقية- من اهتمامات الإدارة الجديدة، فإلى الآن لم أر أية رغبة في التغيير في هذا المجال، وهذا أمر يحتاج إلى الكثير من الجرأة، فإن نحن أنهينا عقود خبيري الموسيقى العربية وحاولنا أن نأتي بخبرات أخرى فإن هذا الفعل بحد ذاته يتكلم ويحكي أن هناك أخطاءً كانت تحصل في الماضي، وأنا لا أرى في الإدارة الجديدة من يريد أن يقول أن هناك أخطاء. 

لقد قامت الإدارة ببعض الخطوات الجيدة منها أستاذ الموشحات، وأقاموا حفلة في دار الأوبرا لكن مقابل ذلك، فإن هذا الحفل المعنون تحت اسم المعهد العالي للفنون المسرحية، استقدمت مجموعة من الأشخاص من خارج المعهد، وقدمت على أنها نتاج المعهد، بالإضافة إلى ذلك في مؤتمر المرأة، كان للمعهد العالي فقرة كورال لكن الفرقة التي أدت لم تكن فرقة المعهد بل هي فرقة خاصة أنا أتمنى أن نعترف أنه ليس لدينا فرقة، أو أن هؤلاء من عندنا والأشخاص الآخرون هم فلان وفلان، وتذكر أسماؤهم. وبما أنه ليس هناك اعتراف فإن كل ما سيحصل هوعبارة عن ترميم. 

 

■ أجرى اللقاء: ع . س