فلسطين تفقد رسامها الأول
خسرت فلسطين فنانها الأبرز اسماعيل شموط الذي قضى 55 عاماً في تشكيل القضية الفلسطينية وتلوين موجاتها، من المآسي والأحزان إلى الثورات والانتفاضات. فهو أكثر من صوّر فلسطين وعاشها في فنه، وأنتج من أجلها ألوف اللوحات. كأن فنه وُجد من أجل القضية، وعاش من أجلها، قبل أن تغادرها ريشته في هذه الأيام التي تشهد على سيرة آلامها في أسوأ فصولها.
فنان واقعي تبنى البساطة، فهم شعبه وانفعل مع قضيته فصدَق حسه المباشر، وراح يسرّح لغته التشكيلية ليس بعيداً عن عقول العامة، فالمهمة بالنسبة إليه نضالية أولاً وفنية ثانياً، ولا بأس أن تكون الاثنتين معاً. حتى أن اسماعيل شموط لم يكن مهموماً بفنه وإنتاجه فقط، إذ سخّر نفسه أيضاً لاحتضان تجارب عدد كبير من الفنانين الفلسطينيين، ومتابعة الاهتمام بالفن الفلسطيني من خلال ترؤسه أول اتحاد للفنانين التشكيليين الفلسطينيين العام 1969 والاهتمام بالفن العربي من خلال ترؤسه أول اتحاد للفنانين التشكيليين العرب العام .1971 بل اهتم، أكثر من ذلك، بتأسيس تاريخ التشكيل الفلسطيني، عن طريق تقديم مؤسسي ورواد الفن الفلسطيني، وتأليف عدد من الكتب تتناول بالبحث والتدقيق تاريخ هذا الفن بمستوييه الشعبي والنخبوي.
منذ بداياته، راح شموط يصوّر القادة الفسطينيين، مبتهجاً بأمثال الحاج أمين الحسيني، معايشاً المأساة الفلسطينية مع تفتح زهرات الشر الأولى، قبل أن يعيش الهجرة والمعاناة وينقطع عن الفن ليؤمن قوته بائعاً للحلوى في غزة، ثم يعود ليحترف الفن باحثاً عن دروسه في القاهرة، ثم متعمقاً فيه في روما.
بقي اسماعيل شموط يصور أحزانه حتى انطلاق الثورة الفلسطينية في أواسط الستينيات، ليبدأ مرحلة جديدة في التصوير انتقل فيها من حال الانكماش والحزن إلى تفجّر المقاومة والثورة، وقد غدت البندقية والفدائي والشهيد من الرموز الأساسية في لوحته.
شاء القدر أن تعود المأساة، بفيض أكبر، إلى لوحة شموط مع مأساة تل الزعتر وما رافقها من اعتداءات على المخيمات الفلسطينية في لبنان، قبل أن تطفح ألوانه وجعاً وتمتلئ عنفاً مع حدث الاحتلال الإسرائيلي العام 1982.
قضى شموط سني إنتاجه الأساسية في بيروت، فكان في قلب الحدث الفلسطيني والعربي، وفي قلب الحركة الثقافية العربية الحديثة لعشرين من السنين، ومع ذلك بقي مشدوداً إلى ملاصقة القضية الفلسطينية بواقعيته التي حافظ فيها على أن تكون قراءة اللوحة سهلة وبسيطة ورومانسية، وأن تكون اللوحة قادرة ليس فقط على حمل الواقع بل على حمل موقف الفنان أيضاً.
لم تغرِهِ الحداثة التشكيلية بكل تجلياتها، ولم يجنح نحو التجريد والتعبيرية البعيدة عن الموضوعية والشكلية، فبقي محافظاً ومتحفظاً على التيارات التشكيلية التي تهتم بالتعبير الذاتي وتنطلق من الضرورة الداخلية، ومنحازاً للواقع وما تطرحه القضية من موضوعات وأحداث. لذلك تحولت لوحاته إلى ما يشبه ملاحم الشعب الفلسطيني، وراح يرسم سيرة الشعب بكل ما تحمله من محطات التشرد واللجوء والكوابيس والشهادة وأعراس المقاومة والصمود.
لم يستطع اسماعيل شموط أن يتغاضى عن ثورة التكنولوجيا فسخر الكومبيوتر في إنتاج مئات اللوحات الغرافيكية التي عرض جزءاً منها في بيروت العام 1998 محافظاً فيها على أسلوبه وملامحه وحيويته التي لم تغادره طوال حياته.