من التراث «شيخٌ من دمشق»
قرأت عن هذا الشيخ ما أذهلني، والمؤسف أننا لا نعرف الكثير عن سيرته العظيمة فإليكم ما قرأت:
«شيخٌ لم يكد يرى تاريخ الإسلام في كل عصوره عشرين من أمثاله، شيخ كان يهابه الملوك ويطيعه الشعب ويذلّ أمامه الجبّارون، شيخ كان له الموقف الذي أنقذ الله به الحضارة وحوّل مجرى التاريخ.
كانت مصر في رجّة رعبٍ وجزع، لقد أقبل عليها السيل الجارف، الذي اجتاح في طريقه كل شيء من أقاصي المشرق إلى أطراف الشام، (المغول والتتر)، وكانت بغداد أم الدنيا وكانت قصبة الأرض وكانت مثابة العلم والفن والجمال، فلم تكن إلا كرة واحدة فإذا عمران بغداد خراب، وأنسها وحشة، وجمالها تشويه، «ما أشبه اليوم بالأمس ـ الغزو الأمريكي ـ المغولي».
انبعثت جيوش هولاكو كالجراد يأكل الأخضر واليابس، يأكل المدن والحضارات، أي جيش يقف أمام جند هولاكو بعدما تمزّق جيش الخلافة وهوت راياته، لم يبق إلاّ مصر، فهل تقدر مصر على ما عجزت عنه دنيا الإسلام من خراسان إلى الشام؟؟
مصر التي زال عنها سلطان الأيوبيين (حفدة البطل صلاح الدين)، وقام عليها حكام من مماليك الأتراك، عبيد غرباء يشترون بالأموال، عبيد يحكمون أحراراً، وكان ملك مصر ولداً جاهلاً، وكانت حكومة المماليك شرّ حكومة، همُّ رجالها ملء صناديقهم بالذهب وبطونهم بالطيبات وقصورهم بالمملوكات، فماذا تصنع مصر؟؟؟
إن مصر، كانت تملك شيخاً دمشقياً نزح إليها، وسكن فيها وصار قاضي البلد، وخطيب الجامع، شيخ كان يعلم أنّ هذا الشعب، الذي هزّه محمد (ص) حتى أفاق وفتح الأرض، لا تزال في نفسه آثار البطولة، إنّ في عروقه ذكر من المعارك المظفّرة التي خاضها، والدماء الزكية التي أراقها، كان يعلم أن هذا الشعب ما دعي مرة إلى التضحية إلاّ لبى، وصرخ الشيخ الدمشقي بأهل مصر: يا أهل مصر اثبتوا واستعدوا وحاربوا، وأنا أضمن لكم على الله النصر.
أيقظ الشعب الذي نامت في صدره البطولات، فاستيقظ... عزلوا حاكمهم الضعيف وأمّروا عليهم البطل الأمير قطز وسموه الملك الظافر.
وقال الأمراء ليس عندنا أموال، فاطلب من الناس أن يتبرعوا لنا، للجيش، قال الشيخ: لا. حتى تخرجوا ما عندكم، وما في قصوركم من الذهب والفضة و ما عند نسائكم من الحلي، وأن تخلصوا في البذل ليأتيكم النصر.
فأخرجوا ما عندهم، ورأى الناس ذلك، فتسابقوا إلى البذل، وكثرت الأموال فأعدوا العدة، وأقيمت معسكرات التدريب، واهتزّت البلاد بالهتاف والتكبير، حتى صار كل مصري يشتهي الوصول إلى المعركة.
وخرج الجيش المصري على أتم هيئة، تتقدمه فرسان المماليك الذين كانوا أرباب حرب وأبطال قتال (بالرغم من أنهم حكام سوء).
بلغ الجيش المصري «بيسان» سنة 658هـ في شهر رمضان وكاد الجزع أن يصيبهم عند رؤية جموع المغول وقوتهم المذهلة، لكن الشيخ الدمشقي قام يذكرهم ويقول: «إن تنصروا الله ينصركم» فغلى الدم في العروق ونزل جيش مصر نزول الموت يتسابقون إلى النصر والشهادة وكانت معركة عين جالوت التي خاف فيها الخوف وذعر فيها الذعر وانجلت من ظفر المصريين.
هل عرفتم من هو... هو عز الدين بن عبد السلام.
قبل رحيله إلى مصر... ولي خطابة الجامع الأموي مع القضاء بعدما اشترط على الحكام أن يطلقوا يده في الإصلاح، وكان يحضر خطبته الملوك والأمراء ويجلونه ويكبرونه فلما وقع الخلاف بين الملك الصالح اسماعيل في الشام وابن عمه ملك مصر، استعان الصالح بالإفرنج الصليبيين وحالفهم ضد ابن عمه، وأعطى الإفرنج بلدين من بلدان المسلمين فغضب الشيخ وقام في الجمعة التالية على منبر الأموي فخطب في ذم موالاة الأعداء وتقبيح الخيانة وقام للدعاء للملك كما هي العادة بعد انتهاء الخطبة والملك حاضر في المسجد فما كان منه إلاّ أن أعلن أن الملك قد خان وأن الخائن لا ولاية له وأعلن إسقاطه من الحكم، لم يراع صداقته ولم يحرص على عطفه، فقبض عليه، وضجّ الناس وتكلم العلماء فأرسل الملك إلى الشيخ من يقول له «إنّ الملك يعفو عنه بشرط أن يقبّل يده!!» قال الشيخ للرسول: يا مسكين، والله ما أرضى أن يقبّل يدي فضلاً عن أن أقبل يده. فبقي في سجنه، وكان يقرأ القرآن مرّة في حبسه وعند الملك وفود الإفرنج فقال لهم: أتسمعون هذا القارئ؟؟ إنه أعظم قساوسة المسلمين وقد حبسته لإنكاره تسليمي الحصون لكم وعزلته عن منصبه!!
قالوا له: والله لو كان قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا ماءهما!!!
ثم أطلق سراحه فسار إلى مصر، وهناك الكثير من الحكايا عنه في مصر، ومنها أن الملك الصالح أيوب خرج إلى صلاة العيد بموكبه العظيم والعسكر بين يديه ووجوه المملكة يسيرون وراءه والأمراء يقبلون الأرض أمامه، فخرج إليه الشيخ وناداه باسمه: يا أيوب!! فالتفت السلطان ودهش ووقف الناس ودهشوا وقال الشيخ: ما حجتك عند الله وفي مصر تبيح الخمور؟ وأشار إلى خمارة يباع فيها الخمر فأمر السلطان في إبطالها، ودخل المدرسة فسأله أحد تلاميذه: يا سيدي لما فعلت هذا فقال: يا بني، رأيته في تلك النعمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه. فقال: يا سيدي أما خفته؟؟ قال: تصورت هيبة الله فصار السلطان قدامي كالقطّ!!.
هو الشيخ الدمشقي عز الدين بن عبد السلام