التردي الثقافي.. ثنائية السلطة والمثقف
تعد قلة الإنتاج الثقافي الأصيل والمؤثر، واهتراء المؤسسات الثقافية العربية بوجه عام، من أبرز سمات واقعنا الثقافي الراهن. وليس ثمة خلاف حول هذا التردي الثقافي، وما يرتبط به من غيابٍ للخطاب التنويري الحقيقي. ولكن الخلاف يكمن حول الأسباب الكامنة وراء هذا التردي، وبالتالي سبل معالجته.
ويحمل البعض كامل المسؤولية عن تدهور الوضع الثقافي العربي، للمؤسسات السلطوية التي تهيمن على مراكز إنتاج الثقافة والمثقفين بقبضتها الأمنية وخطابها الأحادي، حيث تقوم مؤسساتها التعليمية والثقافية المتخلفة بعملية حصار - مقصود أو غير مقصود - للعقول الناشئة التي يجب إفساح المجال لها للنمو والانخراط في عملية إنتاج الوعي.
في حين يرى البعض الآخر أن النخبة المثقفة هي التي تخلت عن واجبها، وعجزت عن القيام بدورها التاريخي المطلوب في بناء ثقافة وطنية أصيلة، فعلقت فشلها وعقمها هذا على شماعة السلطات وقمعها وتخلف مؤسساتها.
والحقيقة إن كلاً من الرأيين يحتوي في طياته جانباً من الحقيقة، فمظاهر الاستبداد بأشكالها المختلفة و(المتطورة) تساهم في تعميق العقم الثقافي، بل وفي إنتاجه دون شك. على أن ذلك لا يعفي المثقفين من دورهم في مقاومة هذا الوضع المتردي، وفي خلق هوامش للإنتاج الفكري وتوسيعها، وتسخير معارفهم في بناء ثقافة ذات عمق اجتماعي، ستساهم دون شك في كسر هيمنة القبضة الأمنية، والخطاب السلطوي الأحادي.
ومن ناحية ثانية، فإن استسلام المثقفين وتباكيهم على الحريات العامة، والمؤسسات الثقافية، أمرٌ يزيد من تعقيد المشكلة، لأنه يورط المثقفين في السلبية حيناً، وفي التعالي على الآخرين حيناً آخر، إلا أنه لا يعفي السلطة من مسؤوليتها التاريخية عما ينتجه أسلوبها الاستبدادي من تعطيل للفكر وحصار للإبداع. ألم يقل «عبد الرحمن الكواكبي» قبل أكثر من قرن إن «المستبد يلعب بالعقل فيفسده»؟
إذاً فإن ثمة علاقة جدلية بين خطاب السلطة الإقصائي، ومؤسساتها الهزيلة، وبين سلبية المثقفين واستسلامهم. فكلما ازدادت السلطة بطشاً، وازدادت مؤسساتها عقماً، ازداد ضعف المثقفين وعدم قدرتهم على الحراك الحقيقي. وكلما ازداد ضعف هؤلاء وتشتتهم، ازدادت هزالة مؤسسات الثقافة الرسمية، وازدادت قدرة السلطة على محاصرتها.
ويمكن القول إن السلطة بوصفها قائدة للمجتمع والمهيمنة عليه، تتحمل مسؤولية تاريخية كبرى، عن وصول الوضع الثقافي إلى ما هو عليه اليوم، وبالتالي فإن تبرئتها، تعتبر تبرئة للحاكم وإدانة للمحكوم، وتعتبر ممالأة مستترة للسلطة، وتبريرية خفية لممارساتها. إلا أن المثقفين الحقيقيين هم من تقع على عاتقهم مسؤولية النهوض بالمهمة التاريخية في البدء بالسير للخروج من عنق الزجاجة، لأنهم هم حملة الوعي ومنتجوه، وهم النخبة التي يفترض فيها أن تقود المجتمع - بالمعنى الفكري- لتحصيل حقوقه، وأولها حقه في الوصول إلى الوعي وإعادة إنتاجه.
إن السلطات العربية بحكم طبيعتها وارتباطاتها، عاجزة عن الخروج بالمجتمع من واقعه الثقافي المتردي، وقد لا يكون لأغلب حكوماتها رغبة في ذلك، وبالتالي فإن المثقفين هم المعول عليهم في خوض غمار هذه المعركة الفكرية والمعرفية الملحة، وهذا يتطلب منهم شجاعة فكرية في الإشارة إلى مواضع العطب، وفي ابتداع الوسائل والأدوات للدخول إلى المناطق المحرمة في الفكر والوعي، ومحاولة استغلال كل المساحات المتاحة، وخلق مساحات جديدة. وإن هذا لن يكون بلا أثمان، ولكن أثمانه دون شك، أقل بكثير من ثمن الاستسلام لواقع ثقافي أبسط مظاهره، أن الشعب العربي من أقل الشعوب قراءة على وجه المعمورة.