بين قوسين: تموز غسان كنفاني
في تموز بعيد غادرنا غسان كنفاني، لكنه في كل صيف يحضر وكأنه غاب للتو. غياب لا يعوّض بالتأكيد، فهو نوع من الخسارات الكبرى التي تترك وشماً عميقاً في الذاكرة، وستظل صرخة أبي الخيزران في خاتمة روايته «رجال في الشمس»: «لماذا لم تدقوا الخزّان» عبارة أثيرة، تختزل مأساة الفلسطيني بكامل تراجيديتها.
غسان كنفاني بنسخة أخرى، علامة إبداعية استثنائية، مثله مثل محمود درويش، وأميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوارد سعيد، كأن مائدة العشاء الفلسطيني الأخير، تفقد حوارييها بالقتل المتسلسل. الفلسطيني ليس مهنة أو شعاراً، حسب ما قاله محمود درويش مرةً، وبناء على هذه الفكرة، فإن غسان كنفاني، ليس أيقونة فلسطينية فقط، بل مأساة إنسانية كاملة، سواء لجهة رحيله المبكر، أو لسيرته الشخصية المتفرّدة. في كتاب «غسان كنفاني: صفحات كانت مطوية» الذي أنجزه شقيقه عدنان، نتعرّف إلى صورته الأولى صورة الفتى الذي لجأ إلى دمشق وعمل كاتب عرائض أمام باب قصر العدل، ثم صورة معلّم الرسم في مدرسة وكالة الغوث، والمُهاجر إلى الكويت في ترحال غجري، ليعود إلى دمشق مثقلاً بمرض السكري وأبر الأنسولين. وهناك صورته في «ملهى الكروان» الدمشقي، واكتشافه حياة الليل في عبثية مطلقة تليق بـ«فوكنر الفلسطيني»، وسنجد ذلك الرعد الذي بشّر بمطر غزير، في كتاباته الأولى غير المنشورة، وسنتساءل بدهشة: هل يعقل أن يكتب فتى غرّ بكل هذا العمق والنباهة؟ في الأدب والفلسفة والسيرة «كنت في غرفتي، غرفة عازب بجدران عارية تشابه إحساسه بالوحدة والعزلة.. أرضها متسخة بأوراق لا يدري أحد من أين جاءت، والكتب تتكدس فوق طاولة ذات ثلاث قوائم رفيعة، أما القائمة الرابعة فلقد استعملت يداً لمكنسة ما لبثت أن ضاعت، والملابس تتكوم فوق مسمار طويل حفر عدة ثقوب بظهر الباب قبل أن يرتكز نهائياً في وضعه الحالي، أما الفراش، فهو شيء يشبه كل شيء إلا الفراش..». أما رسائله إلى غادة السمّان، المتوهجة بالشوق واللهفة والانتظارات المستحيلة، فتستحق وحدها بأن تخلّد صورته عاشقاً. يقول: «يكبر غيابك في صدري بصورة تستعصي على العلاج. ويخفق قلبي كلّما دقّ جرس الهاتف في هذه الغرفة العالية».