غرفة الكاتب:جغرافيا صغيرةٌ لاستيعاب دهاليز الدّاخل
هل يحتاج الكاتب إلى غرفة يصرخ بين جدرانها، ويلوّث بلاطها بالحبر؟ وماذا يفعل حيال الانتقال من مكانٍ لآخر، هل سيعود ليبرمج نفسه مع إيقاع المكان الجديد؟ وماذا بشأن الكمبيوتر المحمول الذي يوفّر إمكانية الكتابة أنى سارت الأقدام؟ هل هناك علاقة معينة بين الكاتب والمكان؟ ألاّ تستجيب حساسيته إلا لغرفته الخاصة أم أنها تلاقي الاستجابة لإشارات الضجيج والضوضاء في المقاهي والحدائق وسواهما؟
طقوس التحولات
محمد أمين أبو جوهر (باحث)
في عام (1955) كنت معلّم مدرسة، وكان عندي غرفة واحدة، لي ولزوجتي وأطفالي.. زوجتي توفيت، والأطفال كبروا وصار لكلّ منهم بيته. آنذاك كنت أقرأ وأكتب على ضوء قنديل الكاز، بعد نومهم جميعاً، سارقاً لحظات الهدوء الكافية للتركيز.
فيما بعد صرتُ أقرأ، لفترة طويلة من اليوم، في مكتبة الأسد، وآخذ الملخصات اللازمة لأشتغل عليها في البيت. أو أنّي أجمع المعطيات، وأكتب في مكتب الحزب الشيوعي، حيث تتوفّر شروط الإنارة والتدفئة أفضل ممّا في البيت.
الآن عندي غرفةٌ، وزوجة جديدةٌ، وغرفتي تحوي كتبي وجهاز كمبيوتر أستخدمه للقراءة فقط، ويزعجني كثيراً قلب الصفحة بالزر، حيث أفتقد صوت الورق وملمسه..
لم تعد علاقتي بالكتابة تحتاج تلك السكينة، وذلك الهدوء، فحين ذهبت إلى طهران (2001) للمشاركة في مؤتمر، كتبت موضوعي بحضور صديقٍ، كان ينظر إلى الأوراق، من وراء كتفي، ويتدخّل، فأرحّب بتعديلاته مسروراً.
تحت التهديد بالقصف
علي حبش (شاعر عراقي)
غرفة الشاعر هي ذاكرته، فماذا أقول عن ذكراتي ـ غرفتي المرشّحة للقصف في أيّة لحظةٍ، خاصة في الظروف الدموية التي يمرّ بها العراق الآن؟
كانت نافذتها التي تطلّ على فراغٍ، في السابق، فضاءً تسرح فيه الأفكار بلا ضوابط، هذا الفراغ مملوء حالياً بصليات الرصاص.. ما حاجتي للغرفة؟ ما حاجة الغرفة لي حين تدكّها قذائف الهاون؟
اللّحاق بالكلمات
عارف حمزة (شاعر)
لا غرفة لدي للكتابة، حتّى أنّه لا عادات لدي في الكتابة سوى أشياء قليلة، يمكن أن نقول عنها بأنّها تأتي تحت بند الاعتناء بالكتابة لا أكثر، إذ أنني لا أكتب الشعر مباشرة، بل أبقى منتظراً إياه، وحتّى عندما تأتي الكلمات إلى عقلي وقلبي وفمي، أقوم بتقليبها ومضغها في الشوارع والغرف والبيوت والأسرة والمطاعم والمقاهي... حتى تنضجع ثم تجعلني تلك الكلمات، أجلس، وأبدأ كتابتها، بعد وقت طويل، ولذيذٍ، من المضغ، والمشي الطويل، والسفر الطويل، والتفكير الطويل بعدم كتابتها.
هناك قصائد كثيرة كتبتها في الحافلات، وكراجات الانطلاق، والمقاهي والمستشفيات، على الورق، وعلى المناديل، وهناك قصائد أهملتها ولم أكتبها. كما أنّ هناك قصائد كثيرة عادت إليّ بعد أشهر طويلة، وبعد سنوات طويلة، وأجلستني كي أكتبها، بعد ذلك الوقت الطويل والثقيل من الانتظار والنسيان، أو من محاولة عدم الرضوخ لسطوة الكلمات والوقوف إلى جانب فكر الشعر.
وفكرة أن يكون لدي مكان للكتابة راودتني طويلاً، ولكنها كانت تخفت عند قراءة الكثير من الحوارات الخرقاء عن عادات الكتبة في الغرف أو في المكاتب. وعندما اشتريت مكتباً لعملي في المحاماة كنت فرحاً جداً، في الرابعة والعشرين، بأنني امتلكت غرفة، أستطيع أن أكتب فيها، مع سماع الموسيقى، والتدخين بشراهة مع فناجين القهوة، أو علب البيرة الهولندية، مع تراكم الكتب والمجلات الثقافية على حساب الكتب القانونية، وسرعان ما نزلت إلى الشارع كي ألاحق الكلمات التي باتت أقلّ بعد نشري لثلاث مجموعات شعرية.
أصبحت أنا الذي ألاحقها في الشوارع، وأخترع لها مشياً طويلاً، وأسفاراً غامضة كي أحصل عليها، لستُ حزيناً، فأنا قارئ بالدرجة الأولى، أحب القراءة، وأستلذ بها، في أي مكان، وبعد أن أصبح لدي مكتب أصبحت أقرأ كثيراً.. أنا الذي أقرأ عشر ساعات في اليوم، على الأقل، برضى وندم أيضاً، برضى لأنني مازلت أملك النظر من أجل القراءة، وبندم على قلة الوقت وكثرة الكتب.
أحب القراءة، ليس كي أحصل على الكلمات، لأنّ الكلمات التي تخصني توجد في الشوارع والسجون والمستشفيات والريف والفقر والألم أكثر منها في الكتب، بقدر ما أحاول أن أعبر إلى العالم الآخر حيث مازالت تهزنا الحياة هناك.
أستطيع أن أقول بأنني كنت أنتظر، داخل الغرف وخارجها، وأثناء الانتظار كنت أكتب الشعر.
سمفونية متكاملة
فاتح كلثوم (شاعر وقاص)
أهي مجرّد غرفة صغيرة تضيق بأثاثها وتتسع لأكثر اللحظات صدقاً مع ذاتي؟ أم أنها شرفة بأربعة جدران محملة بأوراقٍ تختزل ذاكرة قد تمتد إلى بدايات الإنسان العقل؟ أم أنها فضاء فسيح لا يستقبل إلا الأصدقاء الأكثر خصوصية نتبادل معاً مزقاً من الأحلام والدموع والحميمية؟ أم أنها مركبة فضائية تتبادل مع المجرّة الأمكنة والمعلومات التي لم ينتهك سطورها التزوير؟
قد لا أستطيع أن أقدم ملامحها بدقة كاهنٍ يقيم مع صومعته علاقة خارج إطار الزمن المحكوم بقدسية المكان منذ بدء الخليقة.. لكنّها كهفٌ بدائي ممهور بهواجس داخل مداه الممتد من الصباح وحتى الصباح التالي من حلم يقيم، مع هذه الغرفة، علاقة أجهل تفاصيلها الوضعيّة، وهي تختلط مع هواجس النافذة، لتقدم لي رؤية تضيق أوراقاً أخرى إلى كيانها الأزليّ، والتي لا أستطيع الكتابة خارج رؤيتها المتجددة مع كل سيجارة أحشوها في تلافيف دماغها الأسير لأصابعي. أصابعي التي تسرح شعرها لتبعد عنه جميع القوانين الوضعية التي تحكم الغرف المجاورة لها. وكم تبدو لي طفولتها مبشرة، وأنا أبتلع ما يسمى غباراً، وأبعده عن بصائرها لتزهو قداستها في داخلي، ولأنانية مزاجية أمنع تلك القدسية عن أصابع أفراد أسرتي، دون سبب مقنع، ومازلت أبحث عن جواب، لأبرّر عبثية الأوراق التي تفيض بي، وتمنعهم من ترتيب فوضويتها.
ومازالت المفردات تتهامس، بداخلي، عن سرّ المطر الذي يمارس رعونته على بلّور النافذة، ويبدّد حالة النعاس، لأعود إلى قلمي، وأبدأ حواراً جديداً مع تلك السمفونية المتكاملة، والتي تسمّى غرفتي.
أنا فوضوي
عبد المجيد حيدر (سينارست)
كنت أنتظر نوم زوجتي وابنتي، لأكتب من الواحدة ليلاً، وحتى السابعة صباحاً، وقد تبرمجت حياتي على هذا الأساس.
حيث صار لدي مكتب، في القبو تحت شقتي، اشتريت مكتباً وكرسياً، وكان الكرسي أغلى من المكتب! في البداية كان الأصدقاء يرون المكان منظّماً بشكل مدهشٍ، وبالنسبة لي كان خاوياً تماماً، وحيث بدأتُ كتابة أول مسلسل حتى باتوا يرونه فوضى عارمة، لكنني كنت أعتبره منظماً بأفضل ما يكون، وتغيير أي ورقةٍ من مكانها يعني الفوضى، ولعلّ أكثر المشاهد حميمية هي تلك الخارجة من فوضاي ـ مني..
في الوقت الحالي، لا أحتاج أكثر من كمبيوتر محمول، لأكتب في أيّ مكان، حتى لو كان مصعداً.
بداخلي ـ خارج الغرفة
محمد المطرود (شاعر)
كثرٌ هم الذين يقولونها، ويشيرون بأصابعهم: «هي ذي».. كتبٌ مبعثرةٌ، وأوراقٌ بتولٌ، وأخرى افتضت بكارتها بحبرٍ أسود. لا قانون، ولا نظام ينتظم هذه الغرفة، ففي المكان الذي يفترض أن يكون للطاولة، يكون موطئاً للأحذية، أو مكتباً لأعقاب السجائر، وكلّ ما يسّوغ خلافها، وخروجها عن السرب.
في غرفته ـ الشاعر ـ ذلك الممسوس، كأنّ جنية الشعر أو شيطانه يتنفّس ويقاسمه أوكسجينه، وما ينفثه من الجمرات في فوضاه، فنصححْ، إذن هي ذي قصيدتُهُ المؤجلة، كما هي موتُهُ المؤجل. هذا ما يرتبه المعنى الفائت عن الغرفة في ذهنيتنا، وهكذا علكناه، كما مفاهيم فائتة، ولم ننتظر من آخر يغايرنا مقولة أخرى.
وهنا يمكن أن نرى غرفةً أخرى، غير تلك التي تحددها المساحة.. كم باباً لها، وكم نافذةً، ومن ولجها، ومن أضفى عليها عطراً، وآخر غادرها تاركاً نتانةً وعطناً. نقصد تلك التي تتشكّل في الدماغ، أو الروح كهاجس أو أغنية، ولا تكون بحاجة لطاولة أو ورق، ويصير هذا المشغل كما (لاب توب) تفتحه في أيّ مكان وزمان، وتمارس الغواية بأفضل طريقة، تكتب في المقهى، إذا شئت، وفي الشارع وأنت تتأبّط ذراع امرأة، أو ترافق صديقاً تقليدياً، من عيار ذلك الذي لا يميّز بين المقالة والقصيدة النثرية..
أنا لا أنتسب لغرفتي التي أضع فيها كتبي، وقصاصات من الورق والجرائد والمجلات، ولوحات لتشكيليين وجهاز كمبيوتر، وكل ذلك بهدف خلق عشق بيني وبينها، لكن دون جدوى، فأغلب قصائدي بشكلها الطفلي الأول، كانت خارج الغرفة، ولم تنقذني إلاّ فيما بعد، في مرحلة تبييض ما كتبتُ، وفكّ طلاسم الخطّ.
■ رائد وهش