ربّما دقيقة واحدة من العزلة
يوماً تلو الآخر، تزداد العزلة استباحةً من كلّ من هبّ ودبّ، إلى درجة أنّ جلوسك وحيداً صار في عداد المستحيلات.
فإذا لم يأتِ مناد على بضاعته في الشارع، جاء مطهّر الأولاد ليعلن، عبر مكبّر صوت يوتّر أعصاب الجمادات، عن ابتكار ختان الكترونيّ بلا ألم. وإذا لم يأتِ يجيئك أولاد الجيران ليضعوك بين صخب طجات الطابة، وبين أصوات تصايحهم البذيئة. وإذا كان الطالع جيداً ذلك اليوم، وحدث أنّ هذا لم يحدث، يجتاح خلوتك مراهق بموسيقى تكفي عرساًَ، وهذا إذا لم يحدث الاثنان معاً، أو ينضم إليهما ضجيج شجار جارتين، حول الزبالة، أو الأقاويل، أو حتى بلا سبب. وفي حال النجاة من كلّ ما سبق فلا أظنّك تنجو من إلحاح أحد أفراد الأسرة بأن تشاركه في مشاهدة مقطع من مسلسل وحين تجاريه، تكون الطامة الكبرى مشهداً يتصارع فيه (المخرز) وابن عمه (المعلّم عمر) في الإلياذة الشّامية «ليالي الصالحية».
ولعلك تكون في السرفيس سعيداً بنيل فرصتك الثمينة في الجلوس وحيداً بجانب النافذة، لتسرح بلا أفكار، بالبيوت والأشجار والبشر الذين يسيرون بالعكس، عندما توقظك نقرة الراكب جوارك على ذراعك، ليريك الرسالة القصيرة التي وصلته للتوّ: «ابعث صورتك عالموبايل حتى نعرضها في برنامج (عاهات الوطن)!!».
وربما تكون ماشياً عندما تمرّ بحديقة وتقول بصوتك الداخليّ: فلأجلسْ قليلاً. والحقيقة أنها فكرة مواتية للاختلاء في مكان لا تعرف فيه أحداً، لكنك لن تستطيع منع كهل من الجلوس معك على ذات الكرسي، ولن تستطيع منعه من الحديث عن بطولاته وفتوحاته أيام الشباب، كما لن تستطيع منعه من منعك عن التدخين..
الجلوس وحيداً، كأية كومة ركام، أشبه بمستحيل، لا خصوصية لكَ، هكذا يراك الآخر الذي لا يرى لنفسه خصوصية، ولذا لا داعي أنْ تتوحّد، لأنّ وجوده (الآخر) سيصبح مهدّداً، فهو لا يزال يؤمن أنّنا في زمن المشاع.
أنتَ الذي تحتاج إلى «مئة عام من العزلة» لن تجالس نفسك لدقيقة واحدة فقط، وتحسباً لخطورة حدوث اختراق، سوف يأتي اليوم الذي يضعون فيه شاخصات في غرفة، تمنع وجود شخص واحد، حتى لو كان حزيناً.
■ رائد وحش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.