يتيم الأمم اليتيمة
هض الشعر في الأمم التي تسمع، والآن ينهض في الأمة التي تقرأ. ونحن في الزمن الراهن خارج هاتين الضفتين، اللتين، لا تحددان، وحدهما، كما أرى مستقبل الشعر. والشعر، كما أظن، لم يسع في يوم من الأيام، لتأمين مستقبله، في تعثره، وفي انكفائه، أحياناً، وفي عزلته وفي احتقاره للعابر والطارئ، السمتين اللتين تلحقان العرب بركبهما بهمةٍ ونشاط واضحين.
أتكلم بهذه اللغة، لأنني في الحقيقة، لا أعرف ما الذي يحدد مستقبل «الجمالي»، وما الذي... بل من الذي يجعل منه شأناً عاماً، لكنني في الوقت نفسه، أعرف إلام يقود الجمال، وأعرف، تماماً، إلام تقود القباحة. ومع ذلك:
«إذا كان الشعر مقترن بالحرية، فلا مستقبل له عندنا. وإذا كان مقترن بالنهوض العام، فلا مستقبل له عندنا. وإذا كان الشعر مقترنا بزوال الاحتلال، فلا مستقبل له، في المدى المنظور! وإذا كان نهوضه مقترنا بعافية المحمول واللغة، فمستقبله، أيضاً غامضٌ. وإذا كان مقترنا، أيضاً، بعصيانه، وتمرده، وبحثه المضني عن منافذ الضوء، وبرقته، وخشونته، ونظرته التي لا تحدّ للقيم المتعالية، فمصيره غامض أيضاً! فالشعر الحقيقي، يفصل ثوبين، واحداً من الرقة، وآخر من العنف، وعليه أن يستبدلهما كلما التقى بالنقيض».
والعرب، الآن، في الحقيقة، نثريون. هذا أسهل عليهم وأفضل لهم!
وعندما كانوا «شعريين» جاءت معجزتهم في النثر، كشكل من أشكال التحدي للقائم اللغوي والجمالي والاجتماعي. وعندما أصبحوا «نثريين» اختفت المعجزة من حياتهم وحولوا لغتها إلى لغة الصحافة والشكاوى. وهذه لغة «خنثى»، حولت، بفضل الواقع العربي، الشعراء إلى فرسان (رقابة شعبية»، و(خطاب ضراعة) شاحب ومستكين، يلتقطون الفائض، ويشترون به تعاطف الناس، ليصبح ما يجذب الناس في الشعر، هو (ما هو غير شعري). خذ مثالاً على ذلك، شاعراً كبيراً كمظفر النواب. وخذ مثالاً أبسط، أحمد مطر، أو عمر الفرا، وغيرهم ممن يستحوذون، بعضهم بمقدرة وبعضهم بغير ذلك، على «جماهير» الشعر. إن الأمر يستدعي التملي في الظاهرة وأسبابها.
أمرٌ آخر: مفاتن الشعر لا تغوي لا البصيرة ولا البصر على ما يبدو، ما دامت نسبة الأميّة تتجاوز 70% في هذه الأمة العظيمة. مثال آخر له دلالته، وهو وإن كان على نقيض المثال السابق، فهو يحمل المؤشرات نفسها التي يحملها سابقه: إن عدد طلاب كليات اللغة العربية يعد بمئات الألوف، ومع ذلك لا تتجاوز نسخ مجموعة شعرية، لأهم شاعر عربي، كمحمود درويش ثلاثة آلاف نسخة، مع حملات التوقيع، التي تجيد دار نشر ذكية كدار الريس استثمارها.
الشعر يتيم في الأمم اليتيمة، وهو كأي مخلوق، بحاجة إلى أب وأم إلى هواء غير ملوث بما هو معاد للشعر وقيمه ووسائله. بحاجة إلى مأوى، إلى مسؤول ثقافي، لا يعرف في إحصاء حروف الجر وعلامات الترقيم، ولا يرتاب في المعنى، لأنه لا يدركه، ولا يحذف صفحة الشعر في مطبوعته لصالح إعلان عن منظفات تالفة. والشعر في نهاية الأمر، فعل حرية، مثلما هو فعل تفاؤل بالقيم المتعالية، أليس كذلك؟
دعني أخيراً أن «اكوبح» شيئاً عن الشعر ومستقبله بوضوح أكبر!!:
الشعر: * وردة من العبير وقميصٌ من الدم
* صفرٌ منسكب من ناي جريح
* صرير أسنان غاضب مغبون
* تكسر مياه متجمدة تحت أقدام ثقيلة!
* قارب نجاة على شاطئ بعيد، وأنت في اليم، تصارع موج الوضاعة والظل والحيادية وفقدان الضمير!
* رايةٌ جافة تتقدم الركب، وحاد مكسور مهموم (بتابعيه)!
فهل لهذه المزايا مكانٌ في المستقبل القريب أو البعيد؟
■ ابراهيم الجرادي