تاريخ الثورة والإمبراطورية
منذ أن قدّم المؤرخ الفرنسي باتريس غينيفي كتابه عن «سياسة الرعب: دراسة حول العنف الثوري»، أصبح بمثابة أحد المرجعيات التاريخية المعتمدة في فرنسا حول تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ «الإمبراطورية» بعدها. وهو يجمع في كتابه الأخير «تاريخ الثورة الإمبراطورية» مجموعة من النصوص التي كتبها عن الثورة الفرنسية والنظام الإمبراطوري والتي يحتوي بعضها ملامح من سير حياة شخصيات الثورة الكبرى من أمثال روبسبيير ولافاييت ونابليون وغيرهم.
ولا يتردد المؤلف في القول: إن الثورة الفرنسية قد «انتهت» كحدث وكدليل سياسي. ذلك بعد أن كانت قد أقامت «جمهورية وليدة» في خضم الآلام الشعبية ثم بلغت تلك الجمهورية شيئا فشيئا «سن الرشد». ومن الدلائل الكبرى على ذلك أنها «أوقفت إرسال البشر إلى المقصلة» وعرفت تطورا كبيرا على صعيد العادات والمفاهيم.
ويعتبر المؤلف أن الثورة الفرنسية حافظت على «رهاناتها السياسية» حتى سنوات الستينيات من القرن الماضي. ذلك على أساس أن المجتمع الفرنسي عاش باستمرار حالة من «النزاع الكامن» بأشكال متجددة. أما اليوم فيرى المؤلف أن المفاهيم الأساسية العديدة التي كانت فعالة في زمن الثورة وتنتمي إلى قاموسها مثل المواطن والدولة والأمّة والسيادة قد أصبحت بحكم «فاقدة الحياة».
وبعد أن يشير المؤلف إلى أن الفرنسيين يشعرون بشيء من الاعتزاز كون أن «ثورتهم» تبدو بمثابة مرجعية حركات شعبية كثيرة ليس أقلّها ما يسمّى بـ«الربيع العربي» يؤكّد أن الفرنسيين لايزالون يحتفظون في الذاكرة بما كانوا قد اعتقدوه ذات يوم مضى أنهم قد دلّوا العالم كله عند قيام ثورتهم الكبرى عام 1789 على الطريق الذي ينبغي عليه أن يسلكه.
وما يؤكده المؤلف هو أنه إذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى قد انتهت كـ«حدث»، فإنها لا تزال، دون أدنى شك، موجودة بقوة في «أدبيات» الأحزاب السياسية وفي «سجالات» النزاعات الاجتماعية.
لكن هذا لا يمنع بالوقت نفسه واقع أن من يرددون ذلك من قادة نقابيين أو رجال سياسة، إنما يستخدمون «بلاغة» أصبحت تنتمي إلى الماضي. لكن هناك أولئك الذين يرون أن التأكيد اليوم في مختلف النقاشات العامة على «الفضيلة في السياسة» وعلى «مطاردة المشبوهين» هو بمثابة «تطوّر وراثي» للغة التي كان قد استخدمها روبسبيير.
على هؤلاء يجيب المؤلف بكلمة مشهورة لكارل ماركس مفادها أن الأحداث تتكرر «المرة الأولى كمأساة ؟ تراجيديا- والمرة الثانية كملهاة- كوميديا». كما جرت العادة في رسم العدو بصورة «الشيطان» و«تقديس الفضيلة» كإرث من قاموس إنساني مشترك.
ويردد الفرنسيون مقولة شائعة مفادها أن الفرنسيين هم «أطفال الثورة» بينما يعتقد المؤلف أنهم بالأحرى «ورثة الحرب الأهلية». هذه الحرب الأهلية تمثل برأيه «مكوّناً أساسياً في التاريخ الفرنسي». ويضيف: إن فرنسا جرى بناؤها «من أعلى»، و«الأمة الفرنسية» هي من عمل الدولة وليست تعبيرا عن المجتمع.
الثورة الفرنسية نفسها يتم تقديمها كـ«ذروة» حرب أهلية طويلة. وبالتالي شكّلت «لحظة» مهمة من تاريخ فرنسا كله. وقد ظلّت أفكارها الأساسية مثل الأمة والمواطنة والسيادة فعالة على مدى قرنين من الزمن، لكن تلك الحقبة «انتهت اليوم».
اللافت للانتباه هو أنه في الوقت الذي يعتبر فيه محللون كثيرون أن ما سمي بـثورة الطلبة في فرنسا» عام 1968 تمثل «فصلا ساطعا» في المسار الثوري الفرنسي، يعتبر المؤلف أن تلك الأحداث مثّلت «ضربة قاضية» للأسطورة الثورية وأنها «دشنت» بداية العزوف عن السياسة. ذلك أنه بالتأكيد على مبدأ الحذر حيال السلطة جرى تهديم أية قناعة بالعمل الجماعي وإعطاء الامتياز والأولوية للقيم الخاصّة. لكن بالمقابل لم يمنع اختفاء الوعي التاريخي من وجود طوابير من الزائرين «السوّاح» في المتاحف والقصور.