التّفسير الميسَّر لمعنى الحريّة الغامض
أحياناً يسألون عن معنى الحرية التي تصدح بها الحناجر وكأنّهم لم يسمعوا بها من قبلُ. وأحياناً أخرى يُكسون السؤال صيغةً استنكاريّةً وكأنّهم لا يريدونها..!!
ما يدعو إلى الاستغراب والانشداه والذهول، بل.. ما يدعو إلى ضرب الرّأس بالجدار قهراً هو أن كل تلك الأسئلة تكتسي غمزةً ماكرةً يراد منها تمرير فكرة في غاية السذاجة؛ أننا عشنا ولم نكن نحتاج إلى هذه القيمة.. وما أحلانا..!!
الحرية، في مستوى بسيط، أن تكون.. أن تُحِبَّ وتُحَبَّ دون أنْ تتكالب عليك شرور الرقابات، دينية واجتماعية على السّواء.. هذا يعني أن تعمل وتبني لتصون هذا الحبّ، وهو ما يضعك ويضعنا، وجهاً لوجه، أمام فكرة الحقّ، الحقّ بأن تكون ذاتاً تتحقّق في فعاليتها مع الآخر، دون أن تلقي «الشرطة الأخلاقية» القبض عليك، أو أن يصبح المأوى، العشّ، حلماً مستحيلاً، على سبيل المثال.
وتأسيساً على ذلك تعني الحرية، بوصفها أختاً شقيقةً للعدالة، ألاّ تأخذ مجموعةٌ حقوقَ الآخرين، بالطريقة التي تبقي على هؤلاء الآخرين مجرّد كائنات شبحية تعيش في الظلال لكي تموت فيها، ميتاتٍ بائسةً على الأغلب.. حريتك الشخصية المبنية على اختيارات القلب والعقل لحظةَ الإجماع منقطع النظير الذي ينتج الحبّ، تنتجُ، هي الأخرى، قانونها الخاص لحركة ونمو واستمرار هذا الحب، وبالآليات نفسها تستطيع قوننة التفاعل الاجتماعي، بالشكل الضامن لمشاركة الجميع بشأن الجميع (الذين يمكن افتراض أنهم ثنائيات أو مشاريع لثنائيات، ذلك أن خلاصة الوجود هو الحبّ..) وليست نفي القانون خارج حدود الحياة العامة.. وهنا يمكن القول إنّ الحرية (التي لم تكن في واردكم، وربما لن تكون ما دام ثمّة من يستنكر وجودها) تعني قبض الفرد على المعنى المباشر لإنسانيته بوصفه ذاتاً مستقلةً، وبالتالي مواطنيته في حالة التفاعل مع الآخرين..
من يستكثر هذا الحقّ، تحت أي عنوانٍ أو مسمّى، لا يريد مجتمعاً بمقدار ما يريد جماعةً، في تغييبٍ كامل لفكرة المجتمع القائمة أساساً على حرية الأفراد، بينما الجماعة، وهي فكرة حيوانية على كلّ حال، تقوم على نفي الحرية الفردية، وبالتالي نفيها جماعياً..
حين لا يذهب الإنسان إلى المجهول لأنه يفكّر ويقول ما يفكّره (وهي سمة هذا الكائن) تكون حرية.. وحين تكون الحرية تتوزّع خيرات البلاد بالعدل والقسطاس فيكون القانون..
وحين يكون القانون تكون الدولة..
وحين تكون الدولة تكثر المدارس وتقلّ السّجون، تكثر الحدائق وتقلّ الصحارى، يسود العقل إماماً، ويعمّ النقاش العمومي بحيث يتاح المجال، كل المجال، لطاقات التطوير التي تزيد من آفاق النهضة وأمداء التقدم، وهنا بالتحديد لا يعود هناك «إسرائيل»، وهي الموجودة أصلاً لغياب إرادة إزالتها من أبناء المكان الذي غُرست فيه بحجة الديمقراطية، لأننا حين نسقط الحجة بكشف حقيقتها كنبتة اصطناعية لا تصلح لهذه البيئة، ولا لسواها، فإننا في الآن ذاته نطيح بفقرة أساسية من العمود الفقري للطغيان العالمي.. هكذا، هكذا فقط تتسع الفرصة أمام الأمل بحياة أحلى تليق بالبشر الجميلين..
بالحرية (التي هي كل قيم الخير) يكون الوطن.. وحين يكون الوطن تكون الكرامة الإنسانيّة علامةً دالةً لمعنى سمو الحياة وجدارتها بأن تعاش بكامل شبق الإنسان للعيش والاستمرار..!
تأبى الحرية، الآن وهنا، إلاّ أن تتأسّس نبتةً دائمةَ الخضرة في تراب الوعيّ، وهي إذ تُسقى بالدم تتمكّن أكثر وأكثر بالشّكل الذي يَعِدُ، حسب المعنى الشجريّ للكلمة، بمستقبلٍ تتحدّى فيه كل أنواع الريح..
إن انطلق الصوت منادياً فالصوت سينمو ويكبر. صوت غاليلو لم يمت بموته بعدما قال إنّ الأرض تدور. صوت داروين صار قانوناً رغم أنف المحكمة الجائرة التي سقطت بسقوط عصور الظلام التي أنتجتها. صوت القلة القليلة صنع الجمهورية الوحيدة في أوروبا الغربيّة، وقدّم أمثولة الثورة الفرنسية.
وها هو صوت الحرية الذي انطلق من «سيدي بوزيد» يكبُرُ ويكبُرُ ليأخذ العرب إلى مسرح الفعل الإنساني الذي غيّبوا عنه طوال هذه القرون، ليقدّموا إضافتهم الشعرية الخاصّة، فهذه الحضارة الإنسانية رغم كل ما وصلت إليه مازالت تعاني مشكلةً في الروح، فمن غير العرب خصوصاً، والشرقيين عموماً، قادر على إذكاء هذه الجذوة؟