أنقذوا الفلكلور مرة أخرى
نشرت جريدة تشرين الصادرة يوم الأربعاء 9/3/2011 مقالاً للدكتورة منى إلياس بعنوان «مجمع اللغة العربية في دمشق ومشكلة الصراع حول اللغة المحكية ـ مصائر وأحوال كتب الفلكلور الشعبي ومعاجم العامية» خلاصة هذا المقال الرد على بعض المقالات التي كتبت حول معجم اللغة العربية وكتب التراث الشعبي لبعض الكتاب ومنهم محمود المفلح البكر وكلود سلامة ومحمد خالد رمضان.
يخلو مقال الدكتورة أولاً من لغة الحوار وتنعت الكتّاب بأنهم على جهل بالتاريخ وجاء ذلك في قول الكاتبة (إنهم لم يقرؤوا التاريخ كما قلت ولم يتفهموا الظروف التي أدت إلى طرح قضية اللغة المحكية ومن طرحها ولماذا.. في حين أعضاء المجمع فهموا ذلك فتصدوا لها وأصدروا القرارات بمنعها.... إلخ)، أي أن الكتاب المعنيين جاهلون لا يفهمون ولا يفقهون. والذي يفهم هم أعضاء المجمع فقط. هل هذا هو طريق الحوار؟ اتهام الآخر بالجهل وعدم الفهم. علماً أنه يظهر من كلامها الذي أوردته لها من هو الذي لا يفهم. حين تقول (اللغة المحكية) فالمحكية هي لهجة حسب العلم وكل المحكيات هي لهجات وليست لغات. هذا جانب والجانب الأخر فإن الحوار يتطلب الاستماع إلى الرأي الآخر بصدر رحب. نضيف إلى أن واجب من يتنطح إلى الدفاع عن مجمع اللغة العربية ان تكون لغته صحيحة فحين تكتب الكاتبة في العمود الثاني من مقالها: (يضرب فيه على نفس الوتر) وصحيح الجملة (يضرب فيه على الوتر نفسه) وتكتب ايضاً في العمود نفسه (ويعزف على نفس المنوال) وصحيح الجملة (ويعزف على المنوال نفسه) يتبين أنه لا تتقن الكتابة بشكل صحيح. ولن أتابع التدقيق اللغوي فهناك عدة أخطاء أخرى. ولا أدري إذ كانت الدكتورة عضواً في المجمع أم لا.
وأكرر بالنسبة لي حرصي على اللغة العربية حرص المجمعيين عليها، وإنني لست من دعاة الكتابة بالمحكية تحت أية حجة كانت، وذلك فأنا لم أهاجم مجمع اللغة العربية بل أكرر احترامي للمجمعيين لعملهم وحرصهم على اللغة العربية. بل قلت إنه لا علاقة لهم بالتراث الشعبي مطلقاً، لا علاقة لهم البتة. وأعيد أن التراث الشعبي علم كأي علم من العلوم الإنسانية. علم ومن أهم هذه العلوم لأنها كلها تستفيد منه كعلم اللغة، وعلم التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم الجغرافيا ، وخاصة علم التاريخ لأنه يعتمد على علم التراث الشعبي اعتماداً كبيراً، وهنا أقول للدكتورة "منى إلياس": إن الباحثين في هذا العلم يهتمون بعلم التاريخ اهتماماً كبيراً لأنه على تماس مباشر مع علم التراث الشعبي. وهذا رد عليك أيضاً بأن الباحثين التراثيين لا يقرؤون علم التاريخ، فهم أكثر الناس قراءة للتاريخ.
واقول بهذه المناسبة إنه لهذه الأهمية لعلم التراث الشعبي وجب الحرص على جمعه ودراسته. ومع هذا فإن وزارة الثقافة بقيت على سياستها بعدم الاهتمام بهذا التراث، وإلى الآن فهي مقصرة بالعناية به. فخطة الوزارة المعلنة هذا العام هي طبع ستة كتب للتراث الشعبي، وماذا يعني ذلك؟ يعني استبعاد هذا الفرع من فروع المعرفة العظيمة من طريق اهتمامها، ليس ذلك فقط بل تسليط من ليس له الحق بالتدخل به وإقرار طباعة كتبه أو عدم إقرارها حسب أي قارئ مجمعي، وهنا سأقول مثلما قال زميلي الباحث محمود البكر بأن المجمع لا يمكن أن يكون حكماً في هذه البحوث والدراسات لأنه مختص باللغة، وليس بعلم التراث الشعبي، ومنه هذا الباب يجب أن ننقذ التراث الشعبي من هذه المتاهات ونخلصه وذلك خدمة للوطن.
ولقد اعترفت "إلياس" خلال مقالتها بأن (اللغة المحكية) كما سمتها والمسمى العلمي لها هو (اللهجة المحكية) هي جملة مكونات التراث الشعبي علمياً.
إن الكتاب والباحثين في التراث الشعبي لا يفضلون الكتابة باللهجة المحكية بل يحاربون ذلك، وهم يدركون مدى خطورة هذا على اللغة العربية، وهم لا يقفون معه، وأنا واحد منهم لكنهم ليسوا ضد القصيدة الشعبية التراثية أو القصيد الشعبي التراثي أو الشعر الشعبي فهذا شيء أخر، نحن لسنا مع استبدال اللغة الفصحى باللهجة المحكية أو اعتبار المحكية هي لغة الكتابة وهذا ما نحاربه لأننا نعتبره ضد تاريخنا، ولغتنا القومية، وهويتنا، ومفاهيمنا إلى آخر ما هنالك من أخطار، ولكننا مع جمع مكون أساس من مكونات التراث الشعبي بل هو من أهم مقومات هذا التراث. فقد جاء في كتاب علم الفلكلور للعالم الفلكلوري الكزاندر هاجرثي كراب ترجمة رشدي صالح ص19:
(.. فميدان التاريخ ـ باعتباره علماً وثائقياً ـ ينتهي بانتهاء الوثائق نفسها ـ فإذا طبقنا هذه القاعدة تطبيقاً شاملاً، لقصر التاريخ أيما قصور عن أن يؤدي رسالته، ونعني بها بناء التاريخ الظاهري أو السياسي للإنسان. وحيث لا توجد وثائق يكون من حق المؤرخ ـ وهذا حقه لا نزاع ـ أن يستنبط شتى النتائج من الاستدلالات اللغوية أو مدلولات الحفائر الأثرية). والمدلولات اللغوية هنا لا تعني اللغة الفصحى فقط بل تعني اللهجات المحكية أيضاً، أي كل الألفاظ إن كانت فصيحة أم عامية. إن التراث الشعبي اللامادي يتكون من مكونات كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:
الحكاية، المثل، الحزيرة، السيرة، النادرة، الطرفة، النكتة، الألقاب، الملح، المصطلح، الكناية، الأغاني، اللهجة المحكية، التناويح إلى أخر ما هنالك من مكونات وتتكون الأغنية بدورها:
أغاني الحصاد ، أغاني الرجيدة، أغاني الدراس، أغاني التذرية، أغاني السقاية، أغاني الحراثة، أغاني القطاف، أغاني الأعراس، التراويد، الزغاريد، أغاني الزفة، أغاني الجلوة، أغاني الحرف، أغاني الجاروشة، أغاني تصويل البرغل، أغاني لعب الأطفال، أغاني ألعاب الكبار، أغاني المواسم، إلى آخره.
وتتكون ألفاظ اللهجات المحلية من عدة مكونات أهمها:
1) ألفاظ العمل.
2) ألفاظ السرد اليومي.
3) ألفاظ المعاملات.
إلى آخر ما هنالك من مكونات.
إن الأغنية الشعبية بكل مكوناتها، واللهجات المحلية بكل أقسامها من أهم مكونات وأقسام التراث الشعبي. أما لماذا هما مهمتان أو من أهم المكونات؟ فالجواب لأنهما يمسان الحس والوجدان عند الإنسان بشكل مباشر، يمسان المشوار الإنساني اليومي، والحياة التي نسلكها في معاملاتنا وفي مبادلاتنا. الأغنية تبكينا وتفرحنا، وللأغنية الشعبية التراثية التي لا يعرف مؤلفها وملحنها وكاتب كلماتها أهمية منقطعة النظير لا تقدر، فهي تدخل تكويننا النفسي وخواطرنا وبيئتنا، فمعها نشأنا وغنتها أمهاتنا وجداتنا لنا، وسمعناها في أعمالنا لكم لها من منزلة لدينا. الأغنية التراثية في قلوبنا. ولعل لفظة ما لها الفعل ذاته، وهي تهزنا من الأعماق، وتفعل فينا فعل السحر، والأغنية واللفظة، هما غير المثل، والحكاية، والنكتة، فالمكونات الأخيرة لا تتعلق باليومي الآني.
والتراث الشعبي في سورية يضيع أكثره لعدم العناية به كما نوهنا آنفاً. ولكن أكثر ما يضيع منه هما الأغنية الشعبية التراثية والألفاظ المحكية وذلك لعدة أسباب لن نتعمق فيها بل نذكر بعضها:
1) للتقدم العلمي الصناعي الكبير.
2) لأساليب العمل خاصة في المناطق الريفية.
3) لانتشار التعليم.
هذه الأسباب والعوامل أثرت كثيراً على الأغاني الشعبية التراثية وعلى الألفاظ المحكية. لذا فمن الواجب الإسراع في جمع الأغاني والكلمات حتى لاتضيع في زحمة السرعة والعمل والصناعة والتطور.
وأقول للدكتورة "منى إلياس": إننا لا نستنهض اللهجة المكية بل نحن نعمل على جمعها، ودراستها، وبحث خلفياتها كي تساعد في أمور كثيرة منها وجود كلمات كثيرة كانت غائبة عنها، والمساهمة في إغناء لغتنا العربية، والتوصل إلى نتائج علمية تغني العلوم الإنسانية الأخرى. هذان المكونان كنزان لا يشبهان الكنوز الأخرى.
وأنوه في مقالي إلى أنني قرأت لك مقالاً آخر في جريدة تشرين بتاريخ 22/3/2011 بعنوان (دفاعاً عن الفلكلور) يحمل نظرة صحيحة تجاه هذا العلم تناقض تقريباً مع ما قدمته في مقالك الأول الذي نحن بصدده.
وفي نهاية مقالي أقول إنني مازلت أنادي وأصرخ مرة أخرى بأعلى صوتي أنقذوا الفلكلور.