«صحوات» ثقافية في سورية

«صحوات» ثقافية في سورية

طلع علينا «مثقفون» سوريون، ببيان تاريخي جديد، يؤكد مرة أخرى على حالة الانحطاط الثقافي السائدة، والجاهلية السياسية، التي تكونت ونمت وترعرعت في ظل هيمنة ثنائي التسليع: «الرسمي– النفطي» على المشهد الثقافي السوري، والذي كان أحد مخرجات النموذج الاقتصادي الاجتماعي والسياسي السائد في البلاد.

بعيداً عن إطلاق أي حكم أخلاقي على أحد من الموقعين، رغم أن البعض منهم يستحق ذلك لألف سبب وسبب، وعلى البيان رغم أنه بيان استمرار الأزمة، وإعادة إنتاجها، وإن توارى الموقف خلف ستار أخلاقي مفضوح، بعيداً عن هذا وذاك، نحاول مناقشة البيان من منظور سيا- ثقافي، حيث يكثف ميلاً بدأ بالظهور في هذا الوسط الثقافي منذ أشهر، مفاده «خذلان أصدقاء سورية للثورة».

- جاء البيان المذكور رداً على الاتفاق الروسي– الأمريكي بإعلان الهدنة، كمدخل لاستئناف مفاوضات جنيف الخاصة بالحل السياسي. وإذا استنطقنا النص نجد أنه لم يأت على ذلك وهو غير معني بالحل السياسي للأزمة، وبالتالي فإن الخيار الوحيد المتبقي، هو استمرار دوامة الدم في سورية، اللهم إلا إذا كان هناك من ما زال يسعى إلى قيام «الديمقراطيات» الغربية بفرض المشروع الديمقراطي خاصتهم، على أجنحة الـ إف 16، في محاكاة للنموذجين الليبي والعراقي وقبلها اليوغسلافي.

- إن نقطة الاستناد هذه، في تقييم دور «أصدقاء الثورة»، وهو هنا الدور الأمريكي تحديداً، يعني أن من صاغ البيان لم يقتنع حتى اليوم، أو يتعامى عن رؤية كيمياء العلاقات الدولية، وتفاعلاتها، وتراجع أدوار، وتقدم أدوار أخرى. يعني أنه ينظر إلى التاريخ، كمادة جامدة، وأن قطار التاريخ توقف في محطة 1991، ولم يغادره بعد، تلك المحطة التي كانت بداية نسف القيم الحضارية للبشرية، كما اكتشف مثقفونا الأشاوس في بيانهم متأخرين ربع قرن من الزمن، وإن كان اكتشافهم مشوهاً، جاهلين بأن المجتمع البشري يمر بمرحلة انتقالية بين موت العالم القديم– الذي طالما تغنوا به باعتباره عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان، «الذي ارتسم في تلك المحطة..!»، وبين العالم الجديد الذي تسعى إليه القوى الحية من البشرية، وإن ما نراه اليوم في العديد من الساحات ومنها الساحة السورية، هي في جانب منه آلام مخاض ولادة هذا الجديد، وإن قوى العطالة التاريخية التي تقف عائقاً في وجه هذه الولادة، تتوزع بين الرأسماليات المركزية، والرأسماليات التابعة في الأطراف، كل بطريقته ولحساباته، وخلف كل منها جيش من الكهنة، والكتبة، والكذبة، ارتزاقاً، أو جهلاً، أو جمعاً للتفاهة من طرفيها.

- يكشف البيان عن جهل بعناوين الاتفاق، ومعانيه، ودلالاته، فهو اتفاق على الهدنة، وفي جزء منه اتفاق على فرز المجموعات الإرهابية، الذي يعتبر بدوره جزءاً من سلة كاملة من التوافقات والقرارات الدولية بما فيها القرار2254 الذي ينص وبالملموس على حق الشعب السوري في تقرير مصيره، أي إنجاز عملية التغيير، بالتوازي مع محاربة الإرهاب، وبالتالي فإن النظر إلى اتفاق الهدنة من زاوية ضيقة، وبنظرة أحادية الجانب، هو فهم أقل ما يقال عنه أنه قاصر، إن لم يكن تضليلاً متعمداً.

- يعود البيان إلى ثلاث سنوات خلت، إلى ما يسميه بـ«الصفقة الكيمياوية» ويرى فيها بأنها أطلقت يد النظام، متجاهلة بأن ما تسميه بصفقة الكيماوي، كانت في الجوهر جزءاً من عملية منع التدخل العسكري الأمريكي المباشر، الحاضرة كما يبدو حتى الآن في لاوعي من صاغ البيان.

- وبات البيان ينظّر لما اكتشفه من سقوط أخلاقي في النظام العالمي وللإمبرياليات المتساوية، ولعدم جواز ارتهان مستقبل سورية بيد ساسة دوليين متماثلين الخ.. علماً بأن مجرد ذكر مفردة «إمبريالية» أمام بعضهم كانت كفيلة باتهامك بالجمود العقائدي واللغة الخشبية.. ولكن يبدو أن ضرورات تسفيه الدور الروسي، والتشويش عليه، تبيح «المحظورات» لدى البعض. 

- إن البيان لا يعدو كونه صحوة شبيهة بالصحوات العراقية، التي ظهرت بعد أن وصل الخيار البريمري إلى طريق مسدود، فكان لابد من إعادة تدوير القوى، وإذا كان الحامل الاجتماعي هناك هو حامل عشائري وتم توظيف مخزونه الثقافي التقليدي، الثأري الانتقامي، فإنه في الظرف السوري صحوات ثقافية، ليس لديها سوى خطاب تفريغ شحنات تعبر عن أزمة معرفية، وسياسية من جهة، وعن سايكولوجيا الإنسان المأزوم من جهة أخرى. 

كان الوسط الثقافي السوري، قد ضج في العقدين الأخيرين على لسان البعض من هؤلاء، بالحديث عن الحداثة، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والنهضة وما إلى ذلك من رؤى ومصطلحات ومفاهيم كانت تبدو للبعض أنها جديدة، وتحمل- فيما تحمل- مشروعاً ما، ربما تعوّض عن حالة «الفوات» الحضاري، و«الكوميديا السوداء» التي تتراءى لنا على مسرح «اللامعقول» السوري..

وجاء اختبار الأزمة، «ليكشف عورات نخب المشهد الثقافي، فكما أفصحت البنية السياسة التقليدية الحاكمة والمحكومة عن بؤسها، وكما أكدت البنية الاقتصادية على ترهلها وعجزها، تبين أن «أصحاب الياقات البيضاء» في المشهد الثقافي هم في درك هاويتي العجز والبؤس.. أغلب أصحاب تلك الآراء- واحداً بعد الآخر- وعلى إيقاع واحد، - حتى يبدو كأنه نسق منتظم- انتقل إلى الضفة الأخرى، فاستعاضوا عن «الجدل» المادي، بـ«الدجل الطائفي»، ومن «نقد الفكر الديني» إلى التنظير لـ«صراع طائفي»، وانتقلوا من موقع «الدفاع» عن «حرية الرأي» إلى الرياء، ومن إنكار وجود الله إلى التسبيح بحمد «إسلام البيزنس».

أصبحنا أمام ظاهرة تتجاوز حالة القلق المعرفي، والتجربة، والفرضية كأدوات للتحليل وصياغة الموقف، وتتجاوز الموقف الزئبقي الانتهازي الذي قد يمر به بعض المثقفين كسمة ملازمة لهذه الشريحة بسبب موقعها من الإنتاج المادي، بل نحن أمام  فانتازيا «ثقافية»، وبعبارة أوضح، هي ظاهرة انتحار «المثقف» التي تتجلى في خيانة رسالة «نظرية المعرفة» من ألفها إلى يائها»، بدلالة أن هذا النسق الثقافي «المعارض»، ومنذ بداية الأزمة لم يتمكن من صياغة مشروع سياسي ثقافي حقيقي، كما يفترض بأية نخبة جدية، بل كان بعض هؤلاء مجرد أدوات توريط للحركة الشعبية، عبر موقف يومي يلهث خلف تراجيديا الأزمة: المزاودات الكلامية، والقراءات الوجدانية، التي لم تراع توازن القوى، وتعقيدات العمل السياسي، والتي دفعت تلك الحركة من مأزق إلى مأزق آخر، كما فعل تماماً البعض من نخبة الضفة الأخرى– الموالاة- من موقعها. 

لا يمكن لأي خطاب سياسي، أو ثقافي يتعلق بالأزمة السورية، أن يقفز فوق حقيقة بات يدركها كل من يمتلك نعمتي البصر والبصيرة، وهي:

- إما البحث عن حل توافقي، يعيد الاعتبار إلى الشعب السوري في تقرير مصير بلده، بما فيه نظامه السياسي.

- أو استمرار نزيف الدم الحالي، بما يعنيه السير نحو الهاوية.

بين هذين الخيارين، لا يوجد خيار ثالث، واختيار أحدهما هي ورقة عباد الشمس للكشف عن حقيقة كون الإنسان مثقفاً، أو حتى إنساناً، من عدمها.