ممي آلان وساتينيك آلانيا

ممي آلان وساتينيك آلانيا

تمتد الحضارات الشرقية إلى زمن يعود إلى خمسة آلاف عام، مراكمة تراثاً غنياً من العادات والتقاليد والأزياء والأغاني والقصص الملحمية والأدب والشعر والفلسفة المليئة بالخيال الخصب والأحاسيس الوجدانية.

 

يقول الدكتور عز الدين مصطفى رسول: إن التراث يشمل ميادين واسعة من التراث الشعبي ابتداءً من الأزياء القديمة والمعاصرة وأدوات الطعام والعمل والأطعمة الشعبية والنقوش والزخارف وما يتعلق باللمسات الفنية اليدوية كلها والنتاج والفكري لشعب ما، فهي تدخل ميدان الأدب بمنتهى الدقة والابداع تتوارثه الأجيال فتصبح سمة خاصة وابداعاً خلاقا للشعب يحمل معالم البساطة من حيث اللغة وأسلوب التعبير وينطبع بطابع ذلك الشعب واللغة والعصر في مجمل صوره وأفكاره وسمة شيوعه بين الناس، فقلما نجد في الشرق من لا يعرف شيئاً عن فولكلوره ومن لا يحفظ شيئاً منه أو من لا يروي أو يغني أجزاءً منه، فالفولكلور مادة واسعة غنية لدراسة حياة ولغة وتاريخ شعب ما بل يعتبر مادة لعلماء المجتمع والأثنوغرافيا ذي قيمة كبيرة.

ومن وجهة نظر الكاتب مكسيم غوركي فإن  « أساس الأدب يكمن في الفولكلور أي أدب الشعب، والفولكلور مادة خام كبيرة وهو مصدر ومعين للشعراء والأدباء جميعهم فإذا فهمنا الماضي جيداً، كان نتاجنا الحالي رائعاً جداً وسنفهم آنذاك بدقة أهمية الفولكلور». 

 من آلانيا القديمة إلى سورية

تحوي كتب التراث العربي والإسلامي مثل مؤلفات ابن خرداذبة والبلاذري والمسعودي وياقوت الحموي والطبري والقزويني وابن الأثير وغيرهم، وكذلك كتب التراث السرياني مثل مؤلفات ابن العبري «غريغوري هيبرايوس» وغيره على معلومات عن شعوب قفقاسية تدعى «اللان أو الآلان» انتشرت في مناطق الشرق منذ القرن العاشر الميلادي.

وتتحدث الأغاني الأرمنية القديمة من منطقة كوختانا عن غزو الآلان لأرمينيا وتتغزل هذه الأغاني بجمال الملكة الآلانية «ساتينيك»، وعلى الرغم من أن تلك الأقوام لم تترك نصوصاً مكتوبة ذات أهمية، إلا إننا نجد أن تراثهم موجود بشكل وبآخر في التراث العربي والسرياني والأرمني والشركسي والكردي والآذري والروسي والبلغاري والبولوني في بقطعة جغرافية تمتد من بلغاريا وروسيا وأوكرانيا حتى سورية وإيران وآسيا الوسطى، وتنتشر معالم جغرافية في تركيا وأرمينيا وإيران تحمل أسماء آلانية مثل جبال آلان داغ بين بحيرة وان وجزيرة بوتان ومحافظة أردالان في إيران وغيرها. وحافظ أحفادهم الأوسيتيون على اللغة الآلانية القديمة حتى عشرينات القرن الماضي عندما جرى تدوين لغتهم وإنشاء أبجدية خاصة بهم وتأسيس جمهوريتي أوسيتيا الشمالية والجنوبية في الاتحاد السوفييتي. 

لقاء القصص الملحمية في الشرق

يقول جمال رشيد أحمد في كتابه «لقاء الكرد واللان في بلاد الباب وشروان» إنه يمكننا تتبع الارتباطات الكردية – الآلانية في التراث الأدبي من خلال قصة الحب الفولكلورية الكردية «ممي آلان، ممو وزين» التي كانت شائعة في بلاد الكرد من أزمنة قديمة ودونها أحمد خاني في القرن السابع عشر وفي الحقيقة كانت هذه القصة منتشرة شفاها قبل هذا التاريخ.

كما وردت في القصة الكردية أن ممي آلان من أبناء الطبقة الارستقراطية الآلانية وأنه لم يرَ إقليم الجزيرة حيث تدور فيها أحداث القصة كما كتبها أحمد خاني نفسه، وفي نسخة أخرى من القصة فإن ممي آلان هو ملك اليمن.

تتشابه هذه القصة أيضاً في أحداثها مع قصة من التراث اليوناني القديم تسمى «هيستاسبيس وزاريادريس» التي دونها الكاتب اليوناني شاري دي ميتيلين في العصر الهلنستي وهما أخوان يونانيان حكما مناطق تمتد من سورية وإيران والعراق إلى القفقاس. فالقصتان الكردية واليونانية مبنية على الموضوع نفسه، ويمكننا إيجاد الشبه بين زاريادريس وممي آلان فإذا كان الأول ابن افروديت وأدونيس، فإن ولادة الثاني مقترنة بمعجزة وبوز حصان مم هو حيوان خرافي خارج من البحار، وكذلك الشبه بين أوداتيس وزين، وبين هومارتيس وميرأزين، وبين سائق العربة وبكلى، وبين ملك الجن وبكو.

تعود جذور القصة إلى اللغة الآلانية القديمة حيث كان الآلانيون يرتحلون بين شمال البحر الأسود حتى الصين، لذلك فإن الأسماء في القصة الكردية هي آلانية، وتنتشر قصة مشابهة في شرق إيران بأسماء آلانية أيضاً. 

احتفظ الكرد بتأثيرات التراث الآلاني عبر قصة «ممي آلان أو مم وزين» وكذلك الأرمن من خلال قصة الحب بين الأمير الأرمني آرتاشيز وأميرة الآلانيين ساتينيك، وتشبه القصة الأرمنية القصص الكردية والإيرانية واليونانية مع وجود أسماء آلانية فيها ويخيم الطابع الأسطوري والخيالي على كل هذه القصص التي انتشرت شفاهاً بين شعوب الشرق قبل أن يتم تدوينها لاحقاً.

أصبحت هذه القصة الآلانية تشغل جزءاً من الفولكلور الكردي بعد نزوح قسم من الشعب الآلاني إلى إقليم الجزيرة والجبال أواخر العهد الساساني وبداية العهد الإسلامي، وحسب جمال رشيد أحمد تظهر قرابة هذه القصة مع قصة روميو وجولييت في الأدب الإنكليزي لتؤكد أصالة القصة عند قبائل الآلان ثم انتقالها عن طريقهم إلى الجزر البريطانية بعد أن ساقتهم الإمبراطورية الرومانية إلى هناك في بداية العهد المسيحي وانتشرت فيها كقصة فولكلورية إلى أن صاغها شيكسبير «1583-1616» في قالب شعري قصصي تماماً كما فعل أحمد خاني «1650-1706» في المرحلة نفسها تقريباً.

لسان حال تراث الشرق 

من خلال ما سبق يمتاز التراث الشرقي بالتنوع الغني، ويخبرنا هذا التراث العتيق بمحطاته المختلفة عن وحدة نمط الحياة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية عند هذه الشعوب لآلاف السنين، وهنا تكمن إحدى أوجه أهمية دراسة التراث.

استخدم الاديب القرغيزي جنكيز ايتماتوف في مؤلفاته مواضيع من التراث واستوحى من الأساطير والخرافات والأقوال المأثورة باعتبارها الخبرة الموروثة للأجيال السابقة روايات وقصص شيقة. يقول ايتماتوف في مقدمة روايته «ويطول اليوم أكثر من قرن»: إن الإنسان بدون ذكرى الماضي والموضوع أمام ضرورة أن يحدد من جديد موضعه في العالم، والإنسان المحروم من الخبرة التاريخية لشعبه والشعوب الأخرى يجد نفسه خارج الأفق التاريخي ولديه القدرة على عيش يومه الحاضر وحدة فحسب.

الضرورة الموضوعية اليوم تدعونا بوصفنا نحن شعوب هذا الشرق إلى تحديد موضعنا في العالم من جديد وكما أخبرنا التراث الحضاري الممتد إلى آلاف السنين أن الشرق الغني بالتنوع الثقافي عكس حياة اقتصادية اجتماعية واحدة وكما الماضي فإن المستقبل يحمل وحدة مصير وتطور هذا الشرق.