ربّما! شغفاً بالجسد الاستعراضي
أبداً.. تبقّى عروض الأزياء المتلفزة بهجة النفس الأولى. ما إن تنزلْ الجميلات.. الجميلات منصّة الإغواء رافلات بالحرير الطليق، تهب رائحة الخيوط إلى الرئة كمخدّرٍ، فيصحو خيالنا النائم كدبّ.
واحدةً تلو أخرى، يتقدّمن، بخطا مدروسة بالسّنتمتر، فضاءً مطوّعاً برقص الأضواء، والموسيقى الحافية، فيهرّبن رغباتٍ مدفونة في مقابر اللاوعي، إلى مساحة حضور مرّةٍ، ليكون لها أن تتسكّع في انتعاشٍ كان محظوراً بفعل استثناءات وتحفظات هذا الوعيّ المكبل بجنازير أوهام. أتظارف فأشبّه طويلةً منهنّ مستعيناً بعبارةٍ مكتوبةٍ على علب سجائر الحمراء، فأقول «الطول الفاخر»، أو أكتسي جديةً فأوجّه عناوين القصائد إليهن هكذا: هذه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وتلك «الطويلة في المساء»، دون اعتذارٍ من أنسي الحاج أو بندر عبد الحميد. وبينما يعطّل الجمال بوصلة اللّغة، تمشي عدسة الكاميرات مشيات أخرى، لكنّها بذات المشيئة؛ الإغواء، يتقدّم إلى نقطة تركيز مفصلية، وبثقةٍ يمسح التفاصيل، ثمّ ينسحب بطيئاً، إلى الخلف، فيبدو الجسد مالئاً فراغاً هائلاً.
وللصراحة.. ليست الموضة، ولا براعة التصميم الفنيّة، ما يدفعاننا ـ نحن الرجال ـ إلى هذا الوله، وإنما هي الرغبة بجمالٍ يفيض من الشاشة، ليدخل متلقيه ألذّ الغيبوبات.
موديلات العروض بلا أسماء، أسماؤهن هي أجسادهن، ويا لها من هوية رائعة!! الأجساد ـ المريشة بريش الطيور، والمطرزة بالخرز والقصب، والعائمة في أمواج السّاتان والدانتيل ـ أزاحت سطوة الاسم المجازية وسحرية الجنسيات، فبتنا نشاهد صورهن في الصحف والمجلات، دون إشارة لمحدد من محددات الهوية. ومن علقن على أطراف ألسنتنا، فليس إلاّ لشهرتهن، ودونها ما كان لنا أن نظفر بأسماء نعومي كامبل أو آنا سميث أو كلوديا شيفر أو ليزا ستوداون.. الخ، فعلاقتنا معدومة مع أجهزة الإنتربول الدولي.
في آونات مختلفة، تطلع علينا أزياء لا تصلح لأيّ استعمال، لما لجنونها الشكلاني من مزايا سوريالية، تقدم الزي من أجل الزي، دونما نظر إلى وظيفة بعينها، وفي هذا المقام العارضات يبقين بذات البهاء، مع أنّ أجسادهن تمسرح جموح الأخيلة عند مصّممين، بات عملهم جنساً فنياً قائماً بذاته.
من زاوية مقربة، الجمال الذي تمنحه الطبيعة، هو من يرشح طالبة، أو هاوية، حين يحقّق المواصفات النوعية، لدخول عالم الشهرة والمال، بما تعجز عنه كل الشهادات الجامعية، والإنجاز الأكيد في تجاوب الذوق العام، مع مشياتهن الرشيقة، واقتراحات مهندسي التصميم.
شهد عالم الأزياء ثورات جذرية، توازت، في حينها، مع أصداء التحولات الاجتماعية الكبرى، وبمضي الوقت أصبح المصمّمون صنّاع ثورات لا تبقي ولا تذر، فمن الأناقة الارستقراطية الرفيعة، إلى الصراعات الشبابية، حتى وصل الأمر بشغل المقصّ إلى مضاهاة شغل الإبرة، ليصل انكشاف الجلد في مناطق: الفخذين، الظهر، الصدر، الأكتاف، البطن... الخ، إلى ما يمنح المغطى والمعرّى ذات المكانة، فللجسد فتنته التي لا تنكر.
هل تذكرون موجة (الفيزون) العاتية التي ضربت البلد برمته، يوم تحول ذلك البنطلون الضيق، جلداً و كتاناً وقطناً، إلى حديث ساخن على مدار الساعة؟ وإليك الآن تقليعة تعرية السرة، أو حمّى البنتكور النارّية، لتعرف أنّنا ما كنا لنمرض بالجمال لولا عباقرة من سلالة كاردان وإيلي صعب..
بودي الاستطراد قليلاً، لأذهب صوب مزايا الجسد الاستعراضي الخاصة، بغية تسجيل ملحوظة شقية، وهي أنَّ الجسد السوري، رغم العناية الفائقة بالموضة، هو جسد ملبوك المقاس (الكلام عن جسد الأنثى)، يفتقر إلى فتون القامة، وتناغم الأعضاء، فيما يشفع له وجه باهظ، فالسوريات ـ أكثرهن ـ يملن إلى القصر، والتكتل، على عكس ما يمكن أن نراه لدى غيرهن كاللبنانيات مثلاً اللواتي يتميَّزن بأجسادٍ باهظة. الفنّانات في الدراما التلفزيونية خير الأمثلة، وكذلك في فرق الرقص التعبيري المحلية.. راقب جيداً تعرف لماذا لم تزدهر الحالة الاستعراضية كفضاء جمالي.
■ رائد وحش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.