تراث غيلان الدّمشقي
يعتبر غيلان الدمشقي أحد المؤسسين الكبار لعلم الكلام، فهو واحدٌ من أعمدة فرقة القدريَّة التي خاض رجالها إحدى أكبر المعارك الفكرية والسياسية في التاريخ الإسلامي ضدّ الاستبداد السياسي والظلامية الفكرية التي اشتهر بها الحكم الأموي، في زمنٍ ارتبط فيه التنوير الإسلامي بالفعالية الثورية للجماهير المقموعة.
وقد افتقد الحكم الأموي طيلة عهده للشرعية السياسية والدينية وللغطاء الإيديولوجي المحكم والمساندة المعرفية التي يقدمها المثقفون عادة للسلطة، وسيرة غيلان وغيره من مثقفي ذلك العصر تبيِّن لنا ذلك التعارض التام بين الثقافي والسلطوي في العهد الأموي، فعلى الرغم من المصير الأسود الذي تعرض له معلمو القدرية الكبار، حيث دفن عمرو المقصوص حياً، وقتل معبد الجهني تحت التعذيب، فإن غيلان الدمشقي واصل دعوته ونضالاته بلا مهادنة من قلب عاصمة الأمويين، موضِّحاً لأهل الشام بأن ما يتعرضون له من تفاوت طبقي وقمع سياسي ليس قدراً من عند الله، ولذلك فإن مقاومته ممكنة وواجبة عليهم مادموا هم وحدهم من يصنعون القدر والمصير.
وبعد وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك حدثت هزة عنيفة (وان كانت مؤقَّتة) في بنية السلطة الاستبدادية الأموية، حيث وصل عمر بن عبد العزيز إلى السلطة حاملاً معه تصوراً مثالياً عن العدالة في الإسلام، و حاول أن يجري حوارا مع كل الفرق السياسية المعارضة للأمويين بما فيها الخوارج الذين اشتهروا بتطرفهم في معاداة السلطات الحاكمة، فانتهز غيلان تلك الفرصة وأرسل رسالةً إلى عمر يشرح له فيها الحال السيء الذي وصل إليه الناس، ويدعوه إلى إصلاح الأوضاع، فما كان من عمر إلا أن استدعاه إليه وحاوره طويلاً في القضايا العقائدية الخلافية، وتتضارب الروايات حول نتيجة ذلك الحوار وإن كان الاغلب أن كلا الرجلين قد بقيا على موقفهما من قضايا الجبر والقدر، إلا أنهما اتفقا على الهم الاجتماعي، فطلب عمر من غيلان أن يساعده في مشروعه الاصلاحي وأن يتولى مسؤولية بيع أملاك الأمويين التي قرر أن يصادرها.
وهكذا وقف غيلان في ساحات دمشق يبيع أملاك الامويين المصادرة قائلا للناس: «تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع من خلف الرسول في امته بغير سنته وسيرته»، ويردد مناجيا نفسه بصوت عالٍ: «من يعذرني ممن يزعم ان هؤلاء كانوا أئمة هدى، وهذا متاعهم والناس يموتون من الجوع».
إلا أن تلك الفسحة الاستثنائية من التعاون بين المثقف والحاكم بتلك الشروط ما كان يمكن أن تستمر طويلاً، فسرعان ما اغتيل عمر بن عبد العزيز على يد أهله وأبناء عمومته من الأمويين، وهرب غيلان من دمشق إلى أرمينيا خوفاً من انتقام الأمويين الذي كان يعرف جيداً مدى دمويته، فواصل نشر دعوته من هناك، إلى أن قُبض عليه في عهد خلافة هشام بن عبد الملك الذي كان يكن له حقداً شخصياً عميقاً منذ تلك الأيام التي كان يراه فيها يبيع أملاك أسرته شامتاً متشفِّياً.
وهكذا أمر هشام بتقطيع أطراف غيلان الأربعة، ومع ذلك فقد استمر غيلان على نهجه القديم في تحريض الناس ويبدو أن شعبيته قد ازدادت بعد أن رآه الناس في ذلك الوضع المأساوي، فيروى أن بعض أمراء الأمويين قد قالوا لهشام بن عبد الملك :«قطعت يدي غيلان ورجليه، وأطلقت لسانه، إنه أبكى الناس ونبههم إلى ماكانوا غافلين عنه، فأرسل إليه من يقطع لسانه»، وقد نفذ هشام تلك النصيحة وأمر بقطع لسان غيلان، ثم تنبَّه إلى ان مجرد وجود ماتبقى من جسده سيكون خطرا عليه، فأمر بصلبه على أسوار دمشق عند باب كيسان، وهكذا راح غيلان ضحية لمبادئه ودفاعه عن المظلومين. بعد ان مثل صوته ضمير المدينة التي مازالت حواريها حتى يومنا هذا تردد صدى صرخته الشهيرة: «من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى، وهذا متاعهم والناس يموتون من الجوع».
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.