هؤلاء «العُلَمَا» الجُدُد
ما إِنْ فَتَحْتُ بَابَ سِيَّارَة الأُجْرَة، واسْتَوَيْتُ في مِقْعَدِهَا.. حتى صفعني الصوت.
كان صوتاً خليطاً من النقيق والفحيح، لا لأنه يروق لي أن أُشَيْطِنَ الأصوات التي لا أحبّ، بل لأنّه كان كذلك بالفعل. ربما بسبب ما كان يصدر عنه: خليطٌ هو الآخر، من الترهيب والترغيب والشتائم، يعلو مهدِّداً ويخفتُ مُغْرِياً، لا تفارقه بحّة منفِّرة ولا تغادره مادةٌ سطحيةٌ مضحكة– مبكية، مستمدَّة من الفهم الشائع، أو مما يدعوه الفكر الفلسفي بـ«الحسّ السليم» أو «المشترك»، ذلك الحسُّ الذي يجد أنَّ الشمس هي التي تدور والأرض ثابتة، لأنَّ هذا ما تراه عيناه، وكيف له أن يكذّب عينيه؟؟.
كانت العظة المنبعثة من المذياع تدور حول البوذية هذه المرّة، واثقةً كلَّ الثقة من كلِّ كلمةٍ تفوَّهُ بها، شأن جميع أولئك الواعظين الذين تكاثروا كالفطر في طول البلاد العربية وعرضها، وفُتِحَت لهم الإذاعات والفضائيات والدوريات، فاغتنوا من جهل أكثريّتنا وأميّتها وظرفها العصيب، دون أن يقدِّموا لها سوى أشدَّ العظات سذاجةً وأبعدها عن العقل والحقائق، وأكثرها تناقضاً مع روح العصر.
قال الصوت: إنَّ البوذيّة دينٌ كافر، يعبد بوذا من دون الله، بل يعبد أصنام بوذا في وثنيةٍ لم يُتَحْ بَعْدُ للدين الحنيف أن يفتحها ويهديها.
قال: إنَّ البوذيين وثنيُّون، سُذَّج، ناقصو عقلٍ؛ إذْ يخرّون سُجَّداً أمام أصنام بوذا التي لا تضرُّ ولا تنفع، وإنّ ما توصّلوا إليه من علوم وتقنية وسطوة عالمية، لا يزيل عنهم مقدار أنملة من تلك السذاجة وذلك النقص في العقل، وقبلهما وبعدهما ذلك الكفر الوثني. أليس العلمُ هو العلم اللدني النافع، والعلماء هم الفقهاء؟
قلتُ للسائق: ما رأيك؟
قال: هذا عالِمٌ كبيرٌ، خلفه جيش من الأتباع، بينهم أكاديميون كبار.
قلتُ: لم يَفِهِ بكلمة واحدة صحيحة.
قال: ولماذا أصدِّقك وأكذِّبه، من أنت أصلاً؟
قلتُ: لو أنَّ بوذياً صينياً، أو هندياً، أو يابانياً، أو فيتنامياً، أو كمبودياً، أو تيبتياً، أو نيبالياً، أو أندونيسياً، أو بورمياً، أو سيلانياً، أو تايلندياً، أو من أيّ بلد آخر، رفع دعوى قضائية بين يدي محكمةٍ عصرية بتهمة التحريض الثقافي العنصري، وإثارة الفتنة بين الأديان، والتشجيع على الصراع بين الحضارات؛ لكَسِبَها.
نظر السائق إليَّ شذراً وصَمَتَ، لكنّ حيرته بدت لي إزاء كلّ تلك المساحات الشاسعة والأعداد الهائلة من التي تدين بالبوذية، وإزاء تلك التُّهم العجيبة الجديدة على أسماعه.
نظرتُ أمامي وصَمتُّ، وراح ذهني يدوّم في أماكن شتّى: بدا لي ذلك التقدّم الهائل الذي حقّقته بلدانٌ بوذية قياساً بتخلّفنا، وذاك التحرُّر الذي حقّقته فيتنام قياساً بتحرُّرنا. وتذكّرتُ ما جاء على لسان ماركو بولو في رحلاته من وصف لخان التتار الأعظم، منذ القرن الثالث عشر، بأنّه كان يقدِّم التكريم ويُظْهِر الاحترام للأديان الأربعة جميعاً – المسيحية واليهودية والإسلام والوثنية- ويدعو لنجدته أيّهم كان في السماء هو الأعلى حقّاً. وخَطَر لي ما أورده سوزوكي في كتابه عن «بوذية زن» من تعريف للبوذية بأنّها: «عمل الخير/ وتجنّب الشرّ،/ وتنقية القلب/ ذلك هو طريق بوذا»، وأنَّ ذلك لا يختلف في جوهره عمّا جاءت به الأديان الكبرى جميعاً من قيمٍ أخلاقية أساسية، على الرغم من جميع الخصوصيات الثقافية التي اصطبغت بها.
خطر لي أنَّ أتباع بعض الأديان يتوهَّمون مركزيةً نابعةً من قوةٍ راهنة، وأنَّ أتباع بعضها الآخر يتوهَّمون مركزيةً نابعةً من ماضٍ كان مجيداً يأوون إليه في ضعفهم الحالي، وأنّهم، في الحالتين، يظنّون أنْ ليس في العالم غيرهم، أو أن لا مجال فيه إلا لتصوّرهم وحده عن الألوهة، والخَلْق، والكون، مع أنَّ أعداد من يؤمنون بغير أديانهم أكبر بكثير، وفاعليتهم في هذه الدنيا أهمّ وأبعد أثراً.
خطر لي أنّنا لوعقدنا مقارنةً بين هذا النوع من العظات و«الاستشراق» الذي يقلّل من شأن الحضارات والأديان الأخرى، والذي نشتمه صبح مساء، لما وجدنا أيّ اختلاف سوى درجة السذاجة العاتية التي يتّصف بها هذا الوعظ قياساً بسذاجة ذاك الاستشراق.
خطرت لي تلك المكتبة الهائلة من العلوم الاجتماعية، والأنثروبولوجية، والفلسفية، والتاريخية، والدينية... التي كشفت عمّا هو مشترك بين الأديان، وكلّ ذلك النقد الثقافي الذي فضح العنصرية، والمركزية، والتحيّز الثقافي.
نظرتُ إلى السائق، وقد اقترب من الوصول، فوجدته يُتَمتِمُ أدعيةً غارقاً في تُقى عميق.
نظرتُ إلى عدّاد الأجرة فوجدته مطفأً، وعلمتُ أنَّ الإيمان لن يُنْجيني، ولن يُنْجي السائق الورع، من اختطاف ضعف ما ينبغي أو أكثر.