حين يغني محمد شيخو في أعالي قاسيون
لم أكن أتصور يوماً ما، أني سأتخلى عن إحدى أمنياتي في اكتشاف شوارع ومنازل أخرى في مدينتي قامشلي ، أو أن يتسلق الكسل عوالم الاكتشاف فيَّ.،دون أن أحدد تاريخاً لزيارة مدينة أخرى في سورية، لأكتشف ولادتها الطبيعية في عينيّ..، ولكن الذي حدث أنّي تخليت عن هذا الأمنية، وعن أمنيات أخرى أجمل..!
كثيراً ما سمعت عن مدن تكبر مدينتي، وكثيراً ما سمعت عن مدنٍ أكثر كثافة من مدينتي، أو أقدم من مدينتي عمراً، لكن حبي لمدينتي كان حاجزاً أمام تصديق كل الأشياء التي تجعل من مدينتي أصغر حجماً،كثافةً، قدماً...
بقيت على هذه الحال ،حتى زيارتي المؤخرة، والمفاجئة إلى العاصمة دمشق ، حيث كنت مضطراً، وعلى غير عادات الزيارات السابقة، لأن أعتمد على نفسي في سبيل تسيير غرض زيارتي،دون أن أعتمد على أحد ، لأضيع بين الميكروباصات ، ولتكون يدي على قلبي، خشية تجاوز العنوان الذي أقصده، حسبما دون لي الأصدقاء، على ورقة صغيرة كانت في يدي...
رغم كل هذا، كنت مصرّاً على أن مدينتي الشمالية هي أكبر من كل المدن، إلى أن تمت رحلتي الأخيرة إلى قاسيون، لتتكسر كل هواجسي التي كنت مصرّاً عليها أمام كِبَر العاصمة دمشق، حيث أضواء المدينة تمتدّ إلى ما لانهاية ، في تلك اللحظة كان علي الاعتراف بأنّ مدينتي صغيرة بالنسبة إلى العاصمة دمشق..
بعد وصولنا إلى آخر نقطة يقصدها الناس مشياً على قاسيون ، هدنا التعب ، اضطرنا لاستراحة قصيرة ، وكعادتي في كل مساء، فتحت مجلد أغاني محمد شيخو في الموبايل ، لتكون هذه لحظة أكثر دهشة وغرابة من اكتشافي الأول لصغر مدينتي ...!
كانت لحظة يصعب عليّ أن أتلقّى إحساسها دفعة واحدة،محمد شيخو، وقاسيون ،هذا الأمر الذي لم أفكر به،أن أستمع لمحمد شيخو، وهو يغني بالكوردية في دمشق، بل وعلى ثرى قاسيون، أحسسته لم يغن لي فحسب، بل لكل الدمشقيين ، والخلفاء الأمويين، والأيوبي صلاح الدين،لا بل يغني بالكوردية إلى البنائين الذين بنوا أول منزل و أول قصر لأول حضارة في دمشق ، أيا ً كانوا......!
قست من جديد مساحة دمشق ،بحسب نغمة أوتار محمد شيخو ، وحاولت إحصاء ملايين الأضواء تلك في بحّات صوت محمد شيخو ، دون أن أنجح، ودون أن أتخلى عن محاولاتي، لأصير أسير فرحة أكبر من قلبي الذي يحسّ بها ..
مع محمد شيخو الذي استمعت إليه مع أبي ، وكل أعمامي، وأخي الكبير، وكلّ من هم أكبر مني ، ثم لاحقاً مع مجايليّ، صار الاستماع إليه عندي عادةً ،بل إدماناً، وترى، هل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن عاداته، أو ينفك من قبضة إدمانه ، وهو –أي" الإنسان: عادة!" ،كما رآه عبد الرحمن منيف، لذلك صرت أقيس الأمكنة بمدى مناسبتها لغناء محمد شيخو..
صارت دمشق أجمل من قبل ما كانت عليه قبل لحظات،قبل أن يغني فيها محمد شيخو بالكوردية ، صارت كلّ النساء اللواتي غنى لهن في تلك اللحظات ،بالنسبة لي دمشقيات ، وصارت في تلك اللحظات عندي الأحياء التي اشتاق إليها محمد شيخو أحياء دمشق، لأنه طالما كان عندي إحساس بأن محمد شيخو يغني للمدينة التي أسكنها أنا ، و لا يتغزل إلا بأنثى مدينته التي هي مدينتي أنا ...
مع نسمات قاسيون التي كانت تلفّ جسد أغنيات محمد شيخو مهما حاولت أن أرفع من صوت الموبايل ، كان لا بدّ لي من الاعتراف بأنّني في هذه الزيارة الأخيرة، لم أسافر إلى دمشق، بقدر ما سافرت في صوت محمد شيخو في دمشق ، ناسياً تعب تسع ساعات قطعتها ذهاباً، وسأقضيها إياباً إلى ومن دمشق،وكأنيّ أسهمت – للمرة الأولى – في إقامة حفل موسيقي فني- له- بعد كل هذه السنوات من غيابه......!