تراث النِّفَّري والثَّورة
بقي اسم المتصوف «محمد بن عبد الحبار النِّفَّري» شبه مجهولٍ في أوساط المهتمين بالتراث حتى ستينيات القرن الماضي، عندما أعاد الشاعر السوري الكبير أدونيس اكتشاف عمله الأهم «المواقف والمخاطبات»، ومن يومها دخل النِّفَّري إلى دائرة الضوء ولاقى الكثير من الاهتمام والدراسة والتحليل، بل إن اسمه كثيراً ما زجَّ في المعارك الأدبية حول الحداثة الأدبية والشعرية، وكان ذلك بسبب قيام أدونيس بإبراز الجوانب التجديدية في نصوص النِّفَّري، ودوره في ابتكار أساليب تعبيرية جديدة وغير مسبوقة في التراث العربي.
ورغم كل الاهتمام الذي يحظى به النِّفَّري في أيامنا، فإن الموقف الاجتماعي الصريح الذي عبَّر عنه في عدد من نصوصه مايزال بحاجة إلى مزيد من التحليل والتوضيح، فيمكننا القول براحة ضمير أن النِّفَّري قد ترك لنا نصوصاً ثورية كتبت بأسلوب لامثيل له في تاريخ الأدب الثوري العالمي، حيث لاتخرج نصوصه تلك عن سياق اسلوبه الصوفي الرائع الذي يقوم على التداعي الحر للصور والرؤى والأخيلة.
عاش النِّفَّري في القرن الرابع الهجري، حيث سادت مشاعر الاغتراب الاجتماعي والوجودي بين صفوف الكثير من مثقفي ذلك العصر، مع تطور الحياة المدنية بكل ماجلبته من تفاوت طبقي هائل، وترسخ السلطة الأوتوقراطية للحكام المستبدين بعد اندماج المؤسسة الدينية نهائياً في بنية السلطة السياسية (ذلك الاندماج الذي لم تنفصم عراه حتى يومنا هذا)، كل هذا دفع الكثيرين نحو التصوف، حيث كان ملجأً روحياً واجتماعياً من الأوضاع المتردِّية القاسية، إن كان على المستوى الاجتماعي أو السلطوي أو العقائدي، غير أن متصوفي ذلك العصر لم يخلدوا إلى الدعة والسكينة، فقد شاركوا في أحداث عصرهم الجسام مشاركة كبيرة، وانضموا إلى صفوف الكثير من الثورات والدعوات التحررية التي ظهرت في زمانهم، وقد كان النِّفَّري من جيل المتصوفين الذين عاصروا نكبة الحلاج وتأثروا بها أشد التأثر، فلجؤوا بعدها إلى التستُّر والتقية خوفاً من السلطة السياسية والدينية.
إلا أن هاجس الثورة والانعتاق الذي استشهد من أجله الحلاج على الصليب لم يفارق وجدان النِّفَّري، ولذلك فقد ضمَّن أثره الأشهر «المواقف والمخاطبات» عدداً من المقاطع التي تكشف حرارة الوجد الصوفي عندما يصبح ثورياً. ففي ((موقف قد جاء وقتي)) يرسم لنا صورة عن احلامه بفجر جديد للبشرية، يجريه على لسان الإله الذي يستوطن وجدانه:
((وقال لي قد جاء وقتي وآن لي أن أكشف عن وجهي وأظهر سبحاني ويتصل نوري بالأفنية وما وراءها... وترى عدوي يحبني وترى أوليائي يحكمون... وأعمر بيوت الخراب وتتزين بالزينة الحق، وترى قسطي (عدلي) كيف ينفي ما سواه، وأجمع الناس على اليسر فلا يفترقون ولا يذلون، فأستخرج كنزي ويتحقق ما أحققتك به من خبري وعدَّتي وقرب طلوعي، فأني سوف أطلع وتجتمع حولي النجوم، وأجمع بين الشمس والقمر...))
ولا يكتفي النِّفَّري بذلك، بل يقوم بالتحريض الثوري بأسلوب جمالي لامثيل له، فهو يصوِّر ثورة المستضعفين على أنها إمرأة يخاطبها الرب طالباً منها أن تتهيأ ليومها الموعود:
((كذلك يقول الرب إني طالعٌ على الأفنية أتبسم، ويجتمعون إلي ويستنصرني الضعيف ويتوكلون كلهم علي... فلتنتبهي أيتها النائمة إلى قيامك... فارجمي الدور بنجومك واثبتي القطب بأصبعك والبسي رهبانية الحق ولا تنتقبي، إنما الحكم لك، وعود البركة بيمينك، فذلك أريد وأنا على ذلك شهيد...
كذلك يقول الرب أقبل ولا تراجع، وأنظم لك القلادة وأخرج يدي إلى الأرض ويروني معك وأمامك.
فابرزي من خدرك فإنني أطلع عليك الشمس وخذي عاقبتك بيمينك واشتدي كالرياح وتدرَّعي بالرحمة السابقة ولا تنامي فقد أطلعت فجرك وقرب الصباح منك))
لقد اختلفت الأيام وأساليب التفكير، ولكن هذا لا يضعف من حرارة هذه الكلمات، ((الفكر هنا شعر خالص، والشعر فكر خالص)) كما يقول أدونيس ، ويبقى الحلم الذي راود النِّفَّري حياً كما كان في وجدان ملايين المستضعفين.
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.