تراجع العقل في الإسلام
يقض راحتي سؤال يتعزز كل يوم أرى فيه منافحا ما عن اليسار أو العقلانية في الدين، يصبح فجأة سادناً في بيت عبادة.( و لا أملك أدنى اعتراض على هذا) لأني ومن إيماني بأن العقل إلى اليوم تُخضعه العاطفة وتَكسر مفاتيحه الحالة الاجتماعية والاقتصادية. سؤالي المتواضع هو: هل العقل الإسلامي في محنة ومتى بدأت هذه المحنة إن استطعنا تشخيصها؟؟
لابد من مراجعة بسيطة لتاريخ ظاهرة التخلي عن (المذهب) العقلي في الدين الإسلامي، ولابد من دراسة الظروف المحيطة بها، . بدأت أولى الصدمات التي نحت بالعقل جانبا على يد أبي الحسن الأشعري (780ـ941م) بدأ معتزليا عند الجبائي المعتزلي ثم انقلب عليهم لعدة أسباب منها الخلاف معهم في مسألة الصلاح والأصلح.. وهذا غريب أن ينقلب أبو الحسن الأشعري على أثر خلاف بسيط ليصبح من أشد الكارهين لمن رُبي معهم، بل ناصبهم العداء في أدنى الأمور. وكان اجتهاده خلاصة وفيرة لكنها تفتقر لأدنى شروط البحث الممنهج. وقد انتهى أتباعه (الأشاعرة) إلى أن العقل لا يوجب شيئا من المعارف ولا يقتضي تحسيناً أو تقـبيحاً (أي لا يميز بين الحسن والقبيح) وأن الواجبات تفرض كلها بالسمع، ولا وصول لها بالعقل.. أما أبو الحسن نفسه فقد أجمل عقيدته بالتالي: (قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، هي التمسك بكتاب الله وسنة نبيه (ص)، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون...). وكأنه عندما كان معتزليا لم يكن متمسكاً بكتاب الله وسنة نبيه، أو أن المعتزلة لا يتمسكون بما ذُكر.
الحالة الثانية لانتكاسة العقل في الإسلام وإن جاءت من تيار آخر كان وسطا ما بين العقل والنقل، لكنه كان مبدعا بالعزف على وتر التفرد والخصوصية الإنسانية، أعني التصوف الإسلامي. ومن بين دعوات المتصوفة لوحدة الوجود والمذاهب في طريق واحدة مختصرة هي التوحد بالذات الكونية. ظهر أبو حامد الغزالي (1059ـ1111م) فختم على العقل الإسلامي نهائياً في كتابه إحياء علوم الدين ودون رجعة إلا بمراجعة كاملة، من مسلمين علماء مخلصين للدين وللإنسانية؛ يكون لديهم العلم والشجاعة لمواجهة تراث شمولي خاطئ. خلاصة مذهب أبي حامد الغزالي والذي أبطل العلّية الطبيعية أمام العلّية الزمانية بين الأشياء. أن الله خلق العالم بإرادته وهو سبب لوجود العالم ولا توجد إلا علّية واحدة هي علية وجود المريد (أي الله) أما علية الطبيعة أي حدوث أمر متتابع بين الأشياء، فلا وجود لها؛فليست النار هي التي أشعلت الخشب، ولا الإصابة أحدثت الموت، إنما كل ذلك تهيؤ في الذهن. / كأن يُطلب منك أن تتلقى صفعة.. وتتخيل أنك لُطمت../.
الصدمة الثالثة التي أنهت دور العقل في الإحاطة بالنصوص جاءت على يد المتوكل (847 861) إذ استطاع في أربعة عشر عاما الانتصار للاتجاه السلفي، وبالغ أنصار هذا الاتجاه بالانتقام من أتباع الاتجاه العقلي، واستمر الأمر حتى عهد القادر (991ـ 1031) إذ أصدر كتابا ضد المعتزلة، يأمرهم فيه بترك الكلام والتدريس والمناظرة والاعتزال، والمقالات المخالفة (للإسلام)..لعل هذه العجالة تؤسس لمبحث جديد، يكون فيه العقل هو الفيصل يتناول النصوص بروية عقلية ودون تلوين لأغراض النص، وتكون مصلحة الخَلق والدين هما الأساس...