إيميه سيزير: النموذج المطلق للكرامة البشرية
غيب الموت يوم الخميس الماضي إيميه سيزير أحد أعظم الشعراء في القرن العشرين.
إيميه سيزير المولود في جزيرة المارتينيك الفرنسية من جزر الأنتيل في البحر الكاريبي، في العام 1913، لعائلة متوسطة الحال، حاز على منحة للدراسة في فرنسا، حيث التقى هناك بعدد من الطلبة الأفارقة على رأسهم الشاعر والرئيس السنغالي فيما بعد ليوبولد سيدار سنغور»هيليني أفريقيا»، وعملوا على إصدار مجلة «الطالب الأسود»، تخرج في دار المعلمين العليا في باريس، التي سيصدر فيها ديوانه الأول «دفتر العودة إلى الوطن الأم» 1939، والذي سينال شهرة واسعة ، وسيطرح فيه لأول مرة مفهوم الزنوجة، التي ستتحول إلى حركة ثقافية سيساهم في طروحاتها العديد من المثقفين السود من أفريقيا وجزر الهند الغربية.
تلقى سيزير تأثيرات يسارية وسوريالية، وغرف من التراث الأدبي الفرنسي، فقدم لغة جديدة نالت مديح أندريه بروتون الذي كان يرى فيه «النموذج المطلق للكرامة البشرية»، وجان بول سارتر في «أروفيوس الأسود»، وتجيء تجربة سيزير في سياق حركة مقاومة الاستعمار والصراع من أجل التحرر الوطني، لذلك فإن هذا الشاعر هو من أكثر الشخصيات الأدبية التي يتم الاستشهاد بها من منظري ما بعد الكولونيالية كإدوارد سعيد وهومي بابا، كما كان لسيزير تأثير كبير على مواطنه وتلميذه المفكر والمحلل النفسي فرانز فانون صاحب «معذبو الأرض».
أفارقة الكاريبي هم أسلاف العبيد الذين نقلوا من أفريقيا، لكن هؤلاء كانوا يشعرون بضرب من الفوقية تجاه أبناء جلدتهم من الأفارقة، وكان المستعمر الفرنسي يستعين بنخبهم في الأعمال الإدارية للجهاز الاستعماري في القارة السمراء، هذا التناقض سيتناوله سيزير في قصائده ومقالاته النظرية كـ «خطاب حول الاستعمار» 1955، كما سيتعمق سيزير في تحليل تلك النزعة لدى هذه النخب للتشبه بالأبيض إلى درجة كراهية الذات.
من موضوعات سيزير الأثيرة، التاريخ وموقع الجماعة البشرية التي ينتمي إليها في التجربة الحضارية للإنسانية وهو يصف قومه بـ «هؤلاء الذين لم يخترعوا شيئاً»، لكنهم «أبناء العالم الأبكار»، ورغم اعتزاز الشاعر بهويته الزنجية وبحضارات أفريقيا القديمة «ألزمت نفسي بأن أكون باعث هذا العرق الفريد»، إلا أنه يصر على أن الجمال ليس مقصوراً على عرق من العروق «في محفل النصر متسع للجميع»، وهو يحاول أن يوائم بين نبرة دفاعية ونبرة من تجديد الثقة بالنفس.
في المارتينيك أصدر سيزير مجلّة Tropiques (مدارات)، وكتب عدداً من المجموعات الشعرية منها «الأسلحة العجائبيّة» 1946، «شمس قطع عنقها» 1947، و»جسد ضائع» (مع أعمال حفريّة لبيكاسو ــــ 1950)... كما كتب للمسرح «وخرست الكلاب» 1958،»موسم في الكونغو»1966(عن باتريس لومومبا) «مأساة الملك كريستوف» 1963.
اختلف مع الحزب الشيوعي الفرنسي على ضوء الموقف من الستالينية فأسس الحزب التقدمي المارتينيكي عام 1958. عمل سيزير لسنوات طويلة (1945 - 2001 ) عمدة لفور دو فرانس عاصمة الجزيرة، ومثل المارتينيك في البرلمان الفرنسي بين 1945 و1993. في العام 2005 رفض سيزير استقبال الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي وكان حينها وزيراً للداخلية، على أثر المشروع الذي تقدم به الأخير لإدخال مبدأ «الأثر الإيجابي للاستعمار» إلى الكتب المدرسيّة الفرنسيّة. ومع وفاته طالبت زعيمة المعارضة الفرنسية، الاشتراكية سيغولين رويال بدفنه في البانتيون، مدفن عظماء فرنسا.