في شرعية الأسئلة
نحن أمة لا تحب الإحصاء، ولا تعي قيمة الاستبيان، ولا تأبه بثقافة استطلاع الرأي، حتى ولو أخذت به الأمم جميعا!! لـنُدخل الناسَ في هذه الثقافة، لأن ثقافة الاستطلاع تحيلنا فوراً إلى ثقافة التساؤل.
من الذي تجرأ على تعميم اللباس المدرسي، مثلاً، دون استبيان لرأي الناس بهذا الزيّ؟ إن الانطلاق من هذا التساؤل الضحل كـ: من الذي لطّخ الشعر حتى أصبح في أذهان الكثيرين انحلالاً و مجوناً وعربدة و.. وقس على ذلك، أما أن يتبع الغاوون الشعراءَ فهذه إشارة لقصور في الوعي الذي يحمله الغاوون وأمثالهم، أو هو بيان مقدس بعظمة الشعر وجلاله وخطورة بيانه على الدعوة التي كانت ناشئة قبل أربعة عشر قرناً، كما فهمت القول الكريم «الشعراء يتبعهم الغاوون» وأقبل التصويب لهذا الفهم أيضاً. أما وإن الدعوة قد أرست قواعدها.. فماذا بعد؟ ولما روى أبو هريرة عن الرسول(ص): «لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً». صححت له السيدة عائشة إنما قال(ص): «لئن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً ودماً خير من أن يمتلئ شعراً هُجيت به»، وقد اتخذ الذين لا يعلمون قول أبي هريرة حجة على أن النبي (ص) يكره الشعر، وعن أُبي بن كعب أن الرسول(ص) قال: «إن من الشعر لحكمة» وأنه لما سمع بيت طرفة: «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً / ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد» قال: إن معناه من كلام النبوة. وروى البخاري عن النبي (ص) أنه قال: «أصدق كلمة قالها شاعر، حكمة لبيد» قاصداً: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل». وفي القرآن الكريم عشرات من الأبيات الشعرية وكثير جداً من الأشطار فمن الرمل: «وجفان كالجواب وقدور راسيات» ومن الخفيف «من تزكى فإنما يتزكى لنفسه». يحيلنا هذا إلى مواضيع شتى، مثل نسبية الأحكام وتاريخيتها، وتساوق الفقه والتشريع مع الضرورات والمصالح.. وهذا ما تكلم به معاصرون لنا ومتأخرون عنّا، عندما ألغى عمر بن الخطاب (رض) أكثر من حكم معترف به ومؤيد بنص قرآني. من مثل إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم « ضِعاف الإيمان والمترددين» وكذلك إلغاء حد السرقة في عام الرمادة، وإلغاء متعة الحج، إلى إلغاء زواج المتعة.. وغيره الكثير لم تذكر المصادر التاريخية أنه استشار أو تشاور أو استبين..«لكنه اكتفى بقراءة روح النصوص» في حين كان النص القرآني حديث النزول وكانت أسباب نزوله حاضرة في الأذهان، وجُـلَّ من نزلت بهم الأحكام كانوا أحياء يرزقون!! رب قائل: أين الثرى من الثريا؟ أين أنتم أيها الثرثارون من عمر وأصحاب رسول الله؟ مع هذا فللمجتهد أجر إن أصاب وإن أخطأ، ثم أن التفريق بيننا وبين الصحابة على أساس الفهم يلغي مقولتين أساسيتين من مقولات الإيمان وهما: التأسي بالسنة الشريفة للنبي وصحبه أولاً، حتى بمقدرتهم على الفهم اللحظي المتشعب غير الحامل للبعد الواحد للنص لا كما هو سارٍ الآن. وجعلنا غير مرتبطين بثقافة عصر الخلفاء الأوائل والتي كان موئلها الأهم ثقافة البناء على ما تهدم من بنى فكرية متوارثة يقال عنها جاهلية ثانياً.. ألم يسخر النص القرآني من هؤلاء الذين يتعبدون على طريقة آبائهم ولم يتفطنوا للتغيير القادم؟ ألم يقترح عليّ (رض) أن لا نخلّق أبناءنا على خـُلقنا لأنهم أبناءٌ لزمان غير زماننا؟ التساؤل مشروع دائماً ولطالما سئل الرسول (ص) وأُغضب أحياناً!