الفراتي في مهرجانه الثالث.. الشاعر الذي ظُلِمَ حَيّاً.. وميِّتاً!
لا يكفيه أنه ظُلم حَياً.. فها هو يظلم مرة أخرى، وهو ميت.. إنه الشاعر محمد الفراتي..
ففي السنة الماضية كانت «الندوة التكريمية» التي أقامتها وزارة الثقافة، بالتعاون مع رجل أعمال من دير الزور (مغترب)، وقد كانت باهتةً غلب عليها طابع الشكلية، والبرنس، ليس من رجال الأعمال، وإنما من اللجنة الوزارية المنظمة، إذ شكلت فرصة «مادية» للبعض منهم، وقد وعد أثناءها الدكتور عبد النبي اصطيف، مدير هيئة الكتاب، بطباعة أعمال الفراتي.. وها قد مضى عام ونيف.. ولم يصدر شيء من ذلك؟!
وقد جاء مهرجان الفراتي لهذا العام، والذي أقيم في المركز الثقافي بدير الزور على مدى أربعة أيام، كأنه «رفع عتب».. ولكي لا يكون الكلام موضوعياً نقدم الملاحظات التالية:
1) أي مهرجان تسبقه تحضيرات، واستعدادات من حيث الدعاية، والتنظيم.. وغيرها؟! لكن الإعلان عن المهرجان هذا جاء ضعيفاً جداً، واقتصر على لافتةً وحيدة معلقة على جدار المركز الثقافي، وعند مناقشة مدير المركز بذلك «برر» قائلاً: طبعنا «مئة» بطاقة دعوة، وزعت على الدوائر، والمنظمات فلو حضر من كل دائرة المسؤولان الثقافي، والإعلامي لكان هناك مئتان على الأقل، والمشاركون عددهم عشرة ونيف، فلو حضر مع كل واحد منهم ثلاثة، أو أربعة من أسرته وأصدقائه لكان هناك مئة آخرون...
وهنا نتساءل؟!
- هل الحضور يقتصر على المسؤولين الرسمين، أم الهدف نشر الثقافة بين أبناء الوطن؟!
- لماذا فقد المواطنون الثقة بمؤسساتنا الثقافية.. أليس لأنها تقتصر على جهات معينة؟!
- أين طلاب كلية الآداب على الأقل في جامعة الفرات.. لماذا لم يتم توجيه الدعوة إليهم؟!
- أين أعضاء اتحاد الكتاب، والذين يتابعون منهم قلة؟!
إذا ذهبنا إلى أي مقهى سنجدها ممتلئة بالشباب والكوادر.. وما أكثر المقاهي في دير الزور! فكما يقال: بين كل مقهى.. ومقهى.. مقهى، ولهذا أسبابه السياسية والاقتصادية والثقافية، من بطالة، وتهميش للحياة السياسية والثقافية، ونشر للثقافة الانتهازية.. الاستهلاكية. فلو وضعت ملصقات أمام هذه المقاهي.. والدوائر، ووزعت البطاقات على الشباب فيها، فهؤلاء من يجب التوجه إليهم!! ولمَ اقتصر الحضور في أيام المهرجان على خمسين متابعاً عدا اليوم الأول، الرسمي.
2) التنظيم: نكتفي بالقول إنه (شبه ارتجالي)، إذ لا شيء يدل على المهرجان داخل المركز وقد جرت محاولة استدراك هذه الفضيحة في اليوم الثاني ووضعت صورة للفراتي؟! لماذا لم يطبع بروشّور يعرف بالمهرجان والفراتي، وأعماله.. فبالتأكيد لو كان وُزّع باليد.. كان سيُقرأ؟! ناهيك عن عدم الالتزام في الوقت سواء ببدء الفعاليات التي تجاوز التأخير فيها نصف ساعة على الأقل، أو الوقت المخصص للمشاركات.. وهذا ألا يدل على عدم احترام للحضور؟! مما دفع البعض للمغادرة أو المقاطعة.
3) الندوة المخصصة في هذا العام لتناول الفراتي شاعراً ملتزماً، لم يجر فيها الالتزام بالموضوع، وإنما لزوم مالا يلزم! فقد قدم لنا المحاضر الأول الأستاذ فاضل سفان (مع تقديرنا له) أكثر مما عرف بالفراتي بمقدمة طويلة جداً، وقدم محاضرة يشوبها الاضطراب وضعف المنهجية؟! فجاءت مخصصة للجانب الوطني والقومي، خرج فيها إلى حياة الفراتي، والجانب الاجتماعي الذي هو موضوع المحاضر الذي يليه، وتحولت المحاضرة إلى رؤى خاصة وخواطر مع التكرار، كما جرى تشويه لثورية الفراتي وموقفه أثناء العدوان الثلاثي على مصر وأبياته الشهيرة بدور الاتحاد السوفياتي وإنذاره في إيقاف العدوان، وهي شهادة تاريخية تبين أن الدور الفاعل في إيقاف العدوان ليس للأمريكان، هذه الأبيات التي تنم عن روح ثورية، وليست أبيات «مناسبة»، ومحاولة طمس ذلك تمت بالقول إن الفراتي سئل هل أنت شيوعي؟.. فكان جوابه «لكل شاعر عالمه»، والإيحاء بأنها تهمة، وليست تعبيراً عن روح وموقف ثوريين ونذكر بعضاً منها:
قولوا لبلغانين ليث العرين
الغرب قد جار ولن تستكينْ
فرد كيد الغرب في نحره
فالغرب للشرق عدو مبينْ
حدث أيا وفد حديث العلى
عن مرتع المجد وشبل «لينينْ»
وقوله الآخر:
فادفعوا الشر بشر
ويحكم لا تستكينوا
واهتفوا حتى تهزوا الـ
كون: فليحيَ «لينينُ»
أليست هذه الأبيات تعبير عن ثورية الفراتي.. والتزامه بقضايا الإنسانية.. والشعوب؟!
-محاضرة الدكتور شاهر أمرير تناولت الجانب الاجتماعي في شعر الفراتي، وتميزت بالمنهجية والأكاديمية، مع آراء نقدية حداثوية تتعلق بالصورة الفنية، والانزياح اللغوي.. وتوظيف الموروث... وغيرها. وإن حدثت فيها انقطاعات نتيجة القفز فوق بعض الأفكار للالتزام بالوقت، وكنا نرغب بمزيد من التحليل لمواقف الفراتي الطبقية، والديمقراطية.. وليس أسلوبه الساخر فقط، ولو أن شر البلية هو الذي دفع الفراتي للسخرية هذه..
- أعتقد أن الشاعر الفراتي كان شاعراً ثورياً متمرداً يندرج شعره في ثقافة المقاومة، والتي تجسدت بشكل عملي في تطوعه في الجيوش العربية لطرد الأتراك، ومواقفه الطبيعية من السلطة والرجعية والبيروقراطية، وكل ما هو ضد الشعب والوطن، وصوره الفنية على بساطتها الظاهرية فإنها تحمل موقفاً إنسانياً عميقاً ومتجذراً، ناهيك عن الوطني والطبقي.
- رافق المهرجان معرض فني شمل لوحات فنية جميلة اعتمدت على مزج الألوان الحارة دون حدود، ودون ملامح، بالإضافة للحركة اللامحدودة أيضاً، وكلها توحي بفضاءات مفتوحة، أما الأعمال النحتية الرخامية، فقد اعتمدت على تبيان جمالية «الجسد العاري» وخاصة للمرأة في حركات عادية طبيعية، وهناك أعمال نحتية اعتمدت على مادة بسيطة «الفلين الأبيض»، وأيضاً جاءت عادية، أي لم تقدم إبداعاً في الحركة أو الشكل.
- لم أتناول الأعمال الشعرية المشاركة لأنها تحتاج إلى مساحة واسعة.
- ولعل البادرة الإيجابية التي قامت بها مديرية الثقافة كانت بتكريم بعض المبدعين «الأحياء» من أبناء «المدينة» والتي أثارت استياءً كبيراً لدى البعض، نتيجة عدم وضوح أسس ومقاييس التكريم والاختيار.. وهنا نطرح مسألة المبدعين الذين عاشوا وماتوا مظلومين، كما ظلم الفراتي، ألا يستحقون أن نتذكرهم لإعطائهم جزءاً بسيطاً من حقهم؟ ولماذا لا تخصص جائزة سنوية متميزة باسم «الفراتي» تقدم للمبدعين في الشعر أو الأدب عموماً؟
والذي يثير الاستغراب أن اتحاد الكتاب العرب فرع دير الزور أعلن عن مسابقة أدبية لعام 2008 للدراسات والبحوث حول «أعلام دمشق» وليس أعلام دير الزور، فهل يعرف أبناء دير الزور أعلام دمشق أكثر من أهلها.. أليس أعلام دير الزور أولى؟ أهكذا تفعل.. الثقافة عندنا، أم أنها محاولة للحصول على «شفاعة» من المركز؟!