طارق عبدالواحد طارق عبدالواحد

بريد عاجل مع حبي لخليل صويلح

قبل عقد من الزمان (أو ربما أكثر) كان يمكن لمستمعي الإذاعة ومتابعي البرامج الخاصة بهواة المراسلة، كان يمكن لهم في كثير من الأحيان أن يستمعوا (ويستمتعوا) إلى فقرة إذاعية، من قبيل: الصديق أحمد حسنين فرج عبدالله من جمهورية مصر العربية يعاتب أسرة البرنامج لتأخرها في بث رسالته، وبعد أن يعتذر المذيع عن ذلك بكامل صوته الأجش (أو المذيعة بكامل صوتها الأبح)، معللاً ذلك بسبب كثرة الرسائل الواردة، يعود فيبث على الهواء مباشرة تحيات الصديق أحمد لأسرة البرنامج الرائعة، ثم تحياته إلى صديقاته في المراسلة: جورجيت في لبنان، حميدة في تونس، أروى في سورية..

   وبعدها يبث المذيع عنوان الصديق أحمد كاملاً: جمهورية مصر العربية- الزقازيق- جورة الحلواني- دوار القرافة-حسني إمام البقال الشهير بأبيض أفندي عبدربه، ومنه إلى أحمد حسنين فرج عبدالله..

لا أعرف ماذا حل بهذا النوع من البرامج الآن، ولكنني متأكد أن الصديق أحمد لم يعد مهتماً بهوايته المفضلة (المراسلة)، والسبب ليس السن بالتأكيد. وأنا متأكد -كذلك- أن الشبان في حارته لا يزاولون هذه الهواية، وربما لا يستمعون إلى الإذاعة. وما من شك في أن أحمد كان يمارس المراسلة ليستكشف ذلك الجانب الغائب والغامض بكل مساحاته الصعبة (الأنثى). وأغلب الظن أن أحمد الذي يملك الآن موبايلاً وعنواناً بريدياً، لم يكن يملك (ولا جيرانه، بطبيعة الحال) هاتفاً أرضياً (ولا صندوقاً بريدياً)..فشكراً لإذاعتي لندن ومونتي كارلو!!..

في تلك الأيام لم تكن أسرتي تملك هاتفاً أرضياً (وحتى وقت قريب) وكان علينا أن ننتظر رسائل أبي المسافر إلى خارج القطر (من أجل السياحة في السعودية، وفيما بعد في ليبيا) بكل تلك اللهفة. وكان مجرد مرور ساعي البريد في حارتنا يثير فينا مشاعر غامضة نابعة من تلك الانتظارات السمراء وذلك الأمل الأحدب. ـ لا يهم الآن!..

وساعي البريد لم يعد موجوداً حتى في كتب القراءة في الصفوف الإبتدائية (بسبب تحديث المناهج!..)، تلك الكتب التي علمتنا وأخبرتنا عن "الدور التاريخي" الذي كان يقوم به ذلك الرجل( في الامتحانات فشلنا في الإجابة عن أسئلة هذا الدرس بالتحديد) بكل ذلك الإنشاء المزيف (الذي يذكرني برائحة الكوسا المطبوخة) الذي يقترح الأمل والفرح الذي يحمله الساعي إلى البيوت المعتمة بأضوائها النافقة.

أظن أن لاشعوراً باسلاً دفع مؤلفي تلك الكتب لاستثمار "ساعي البريد" كحالة، وكنص للقراءة.. بشكل يمكن تلخيصه بذلك الشعور الهائل القابع في نفوس الجميع: الانتظار!!..

   لقد هجّروا ساعي البريد من كتب القراءة لأنه علمنا أن الأمل والفرح في الرسائل، (وليس في العمل والنضال، كما ينبغي).. وهكذا هجر ساعي البريد دراجته الهوائية (كنت سأكتب: البسكليت، ولكن لقمان سيقول: إنهم يقلدونني) وركن إلى كأس المتة بكل تلك الأبهة الوطنية!..

الموبايل، البريد الإكتروني: شكراً لثورة الاتصالات!..

أحب الموبايل: بعثت مرة رسالة إس. إم. إس لفتاة صحفية بعد قليل من الغزل، كتبتُ فيها: أحب الموبايل لأنه يجعلك موجودة دائماً!..

أحب البريد الالكتروني، فبسببه لست مضطراً لإبلاغ من يريدون مراسلتي بذلك الكم الهائل من العناوين الفرعية، حتى بعد أن هجرت الحجر الأسود في دمشق. (الحقيقة أنني أزجي الوقت بقراءة رسائل اليانصيب!..).

أحب الموبايل والبريد الالكتروني معاً، لأنهما يساعدانني على التشرد، وعلى الوصول إلى عناوين طارئة (!!). ببساطة، عنواني: رقم هاتفي!

الجميع استفاد من ثورة المعلومات والاتصالات، لكن البعض يفضل رجم هذه الثورة (ويفضل التغني بثورات أخرى) لأسباب كتابية في معظم الأحيان (أو لأسباب معيشية، كما هي الحقيقة) دون أن يتخلى عن استثمار منجزاتها، وكنت كتبت عن هذه الفئة من الناس في مقالة بعنوان: هجاؤوا التكنولوجيا.

أما أكثر المستفيدين من العنوان البريدي، فهو بلا شك كاتبنا اللامع، وصحفينا المرموق، القاص حسن م يوسف، مع الاحترام الفائق لحضوره على الشاشة، بكل تلك الأبهة والعبقرية، واللحية الخرافية (من أجل السجع)، وحمالات البنطال الشائعة جداً في أزيائنا أواسط القرن الماضي (لا،لا.. هذا لؤم شخصي).

حسن م يوسف يكتب زاوية يومية في صحيفة محلية (لجذب القراء، طبعاً) مستفيداً من الرسائل الواردة إلى إيميله الشخصي، بشكل يبدو معه أننا لو حذفنا إحدى عباراته الشهيرة (وردتني رسالة في الإيميل) أو (بينما كنت أتصفح إيميلي)، لبدا لنا أن كاتب تلك الزاوية ليس أكثر من مراسل محلي. (وما العيب في ذلك؟ طالما أنه يمكن لأي مراسل محلي، لأسباب جغرافية، أن يكتب زاوية يومية).

   رسائل الإيميل أوحت للقاص الأصح للسيناريست، حسن م يوسف أن يكتب مسلسلاً (وفيلماً) يقوم على فكرة الدردشة، فطوال ثلاثين حلقة دردش حسن م يوسف مع البروفيسور بيتر، ولم يوفر م يوسف جهده في إبلاغ البروفيسور بيتر أن اسمه عربي: بطرس. أما كيف أبلغه بذلك فلا أعرف.

في إحدى المرات التي عرض فيها الفيلم (صلاح الدين) في صالة اتحاد الكتاب الفلسطينين، استبد السؤال بأحد الحاضرين، فسأل السيناريست: كل ما أريد معرفته، هل الدكتور بيتر شخصية حقيقية؟!

لم يكن من حسن م يوسف إلا أن ابتسم بزهو، وأردف (الكلمة مشتقة من الردف): لا، لا..طبعاً لا، إنه شخصية وهمية.(لا بد أن ذلك المشاهد شعر بخيبة الأمل).

طبعاً، لكم الحق أن تعتقدوا أن سبب الزهو هو إحساس حسن م يوسف انه استطاع أن يقنع المشاهدين أن الدكتور بيتر هو شخصية حقيقية. أما اعتقادي الشخصي فسبب ذلك الزهو نابع من انتصار م يوسف على الدكتور بيتر.. في تلك المراسلات الذكية والمنطقية، بكل ذلك الانصياع للعقلانية والعقلية (الكلمة قادمة من تعبير: عقل الدابة)!!..

كنت موجوداً هناك، وقلت ما معناه: أستغرب أن تشعر بالزهو، فمجرد سؤال أحد الحاضرين عن شخصية الدكتور بيتر يعكس حالة الشك لديه، وهذا يعني أنك لم تكن مقنعاً. وقلت: إن لهاثنا وراء تحقيق انتصارات مزيفة لدرجة أننا نخلق خصوماً يمكن الانتصار عليهم ليس أكثر من لعبة بلهاء..

لا أعرف الآن بالضبط، ماهية مراسلات الصديق أحمد حسنين فرج عبدالله، ومع من يدردش، وكل ما أعرفه أن حسن م يوسف غضب كثيراً (ولم يحبني)!!..

ولكن ماذا عن خليل صويلح؟!..

لقد أردت أن أقول: اشتقت لك يا رجل!...