الديالكتيك.. وقوانين الطبيعة
تتلخص الصراعات الفلسفية كلها، منذ القِدَم وحتى اللحظة، بصراع بين المذهبين الفلسفيين الأساسيين، المذهب المثالي من جهة، والمذهب المادي الديالكتيكي في الجهة المقابلة.
تتبين نقطة الخلاف الأساسية بين المذهبين السابقين من خلال الإجابة عن السؤال الأساسي في الفلسفة، الذي يقول: من أولاً المادة أم الوعي؟؟، في الشق الأول منه، وهل يمكن معرفة العالم أم لا ؟؟، في شقه الثاني، فالمذهب المادي الديالكتيكي يقول بأولوية المادة على الوعي ويجيب بإمكانية معرفة العالم، ويحدد الواقع الموضوعي كمصدر لهذه المعرفة، بينما على العكس تماماً، يجيب المذهب المثالي بأسبقية وجود الوعي على المادة.
موضوعنا للبحث في هذه المادة هو، المادية الديالكتيكية كمذهب فلسفي، وعلاقته بتطور العلوم الطبيعية، لكون أنَّ السلاح بيد المذهب المادي الديالكتيكي كان دائماً وأبداً هو العلم، السلاح الذي جعله يتثبّت يوماً بعد يوم، وينتصر على خصمه المثالي، وغيبيته التي لفظتها الطبيعة وقوانينها.
الميكانيك.. والمادية الميكانيكية
كان يُضفي على العلم في مراحله الأولى، السمة الغيبية في معالجة الظواهر الطبيعية، وترافق هذا مع مادية محدودة ميكانيكية الطابع، حيث أن التفسير الميكانيكي للطبيعة له جذوره التاريخية العميقة، المرتبطة بتطور علم الميكانيك، الذي اجتاز خطوات كبيرة في وقت كانت فيه ما تزال باقي العلوم بمراحلها الجنينية، ففي الفترة النيوتونية، وضعت لوحة متكاملة لمفهوم علمي عن العالم يستند إلى مبادئ الميكانيك التقليدي، وكان هذا أمراً لا مفر منه تاريخياً، وهو نتاج المرحلة الأولى من تطور العلوم الطبيعية.
«لقد ارتبطت ولادة العلوم وتطورها، منذ البداية، بالإنتاج»، هذا ما قاله الفيلسوف الألماني، فريديريك أنجلز في كتابه ديالكتيك الطبيعة، وما يقصده أنجلز أن حاجات الإنتاج ومتطلبات الحياة المادية تضع أمام العلم مهمات معينة، وتفرض تطوره باتجاه محدد، وتشكل الأساس الصلب للاكتشافات العلمية الجديدة.
إذاً، كانت أسبقية التطور لعلم الميكانيك، وذلك نتيجةً للمهمات العملية التي طرحتها القوى المنتجة ودرجة تطورها في حينه، وهي مرحلة تفكك الإقطاعية، ونشوء النظام الرأسمالي (تطور الصناعة الحربية - الملاحة البحرية - طرق المواصلات)...
العلم.. والحاجات المادية
في بدايات القرن التاسع عشر، تطوّرت الظروف، وزادت الحاجات المادية، وتغيرت طبيعتها، ممّا دفع العلم للتطور الأوسع والأعمق لتلبية هذه الحاجات، وهنا بدأت تعاني النظرة المادية الميكانيكية من قصور متزامن مع نشوء تيارات مختلفة في التفسير الميكانيكي للعالم، واشتداد الصراع بين الاتجاه النيوتوني، والديكارتي، ما عبر في حينه عن وجود إشكالية بالمنطق الميكانيكي الذي يعتمد علم الميكانيك وحده في تفسير الظواهر وتعميمها، ويسعى دوماً لأن يصف ويضبط كل ما يحدث في الأرض والسماء من منظوره المطلق. لكن وبالرغم من ضيق حدود المادية الميكانيكية الناتج عن ظروف تطورها التاريخية، فإن أسسها في الطريقة العلمية لعبت دوراً إيجابياً، وأثرت كثيراً على تطور العلوم في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومن الجدير بالذكر أن قوانين الحركة الميكانيكية التي توافق أحد أشكال حركة المادة، والتي كانت المادية الميكانيكية تكثف نظرتها للطبيعة، عبرت عن جانب من جوانب الديالكتيكية الموضوعية للطبيعة والحركة.
العلم في القرن التاسع عشر
شهد القرن التاسع عشر تطوراً كبيراً في العلوم، ومنها علم الفيزياء بفروعه المختلفة (الحرارة، الكهرباء، المغناطيسية)، فقد اكتُشِفَ قانون انحفاظ الطاقة وتحولها، وأجريت تجارب عديدة آنذاك، قدمت براهين قاطعة على قدرة الحرارة في التحول إلى عمل ميكانيكي وبالعكس، مع الانحفاظ في الطاقة أثناء هذا التحول، وتم تعيين المكافئ الميكانيكي للحرارة، الأمر الذي دعّم هذا القانون، وجعله غير قابل للنقض، بالإضافة إلى أنه دحض ما كان سائداً في حينه عن وجود «مادة معدومة الوزن»، وأظهر أن الظواهر الحرارية هي ليست خصائص لسائل معدوم الوزن، مبيناً أن هذه الظواهر لا يمكن تفسيرها إلا بقوانين الحركة المميزة للجزيئات.
وفي علم الجيولوجيا، بعد أن كانت المفاهيم الغيبية عن عدم تبدل الحالة الجيولوجية والجغرافية للأرض، وما عليها من نباتات وحيوانات، هي السائدة، وبعد ما قيل حول أن كل ما هو موجود وحيّ على الأرض كان يُقضى عليه بكارثة، وتطوير ذلك الطرح ومحاولة إثبات أن الأرض تطورت تحت تأثير سلسلة من الكوارث، تم إثبات أن الأرض لم تعرف مثل هذه الكوارث، وأن تحولاتها لا تنشاً عن كوارث عابرة، وإنما عن التأثير المستمر للعوامل الطبيعية. الإثبات الذي أدى لاحقاً إلى استنتاج التطور المتدرج للعضويات، وتكيفها مع الوسط المتبدل، والمتغير دوماً، باعتبار أن سطح الأرض وما عليه من شروط الحياة يتبدل بصورة مستمرة مطلقة.
في الكيمياء، تم اكتشاف أهم قانون من قوانين الاتحاد الكيميائي، وهو أن العناصر الكيميائية تتحد مع بعضها وفق نسب معينة، فعندما يتحد عنصران كيميائيان تتحد ذرة من أحد العنصرين مع عدد صحيح من ذرات العنصر الآخر. هذا القانون الذي عبّر بجوهره عن أنَّ التغير الكَمّي الذي يحدث بإضافة ذرات عنصر إلى ذرات عنصر آخر، يتجلّى بتغير نوعي وهو تشكل مادة جديدة لها تركيبها الكيميائي الخاص.
ما سبق كله من هذه التطورات العلمية حصل من بدايات القرن وحتى الأربعينات منه، وهذه التطورات، تغلبت على المحدودية الميكانيكية، وأوجدت الظروف الضرورية لخلق مفهوم مادي ديالكتيكي عن الطبيعة.
قفزات نوعية
لو ذهبنا وقرأنا التغيرات العلمية التي حصلت في وقت لاحق من القرن نفسه حتى أواخره، سنجد قفزات نوعية، وثورات حقيقية بالمعنى العلمي بكل ما للكلمة من معنى، فاستنتاج التطور المتدرج للعضويات، تحوّل إلى نظرية للخلية الحية على يد العالم تشارلز داروين من خلال صياغته لنظرية التطور، والصراع الذي كان يدور حول قانون انحفاظ الطاقة وتحولها، حسم باتجاه حقيقته المطلقة، مُدعّماً بالنتائج التجريبية كلها التي أجريت بغرض التحقق من صحته، بالإضافة إلى النظرية النسبية التي جاء بها العالم ألبرت آينشتاين، وانقلابه بها على نظرية المكان المطلق، وعلى ميكانيك نيوتن التقليدي، الذي كان يقف عاجزاً عن التفسير في حدود معينة من السرعة، وإيضاحه فيها أن الكتلة مقدار غير ثابت، ومرتبط بالحركة، معبراً بقانونه الشهير(E=M)، عن أن مقدار معين من الكتلة يحوي ذلك المقدار نفسه من الطاقة.
هذه القفزات النوعية في العلم حوّلته إلى نظام مادّي شامل لمعرفة الطبيعة، وذلك عن طريق الكشف عن العلاقة بين مختلف مجالات الطبيعة (ميكانيك – فيزياء – كيمياء – بيولوجيا...الخ).
العلم والفلسفة
في الختام، ما أريد قوله، أن التطورات العلمية دائماً وأبداً تُثبّت النظريات الفلسفية أو تنحيها جانباً، والنظريات الفلسفية تنتظر بكل حذر وفارغ صبر، التطورات العلمية للتأكد من صحة ما أتت به.
الإنجازات العلمية حتى الأربعينات من القرن التاسع عشر، أوجدت التربة الصالحة لنمو مذهب مادي ديالكتيكي، وتحول وجود مذهب مادي ديالكتيكي في حينه، لضرورة واقعية لاستمرار التقدم في تلك العلوم، ومع تبلور هذا المذهب الفلسفي، وتوسّع نظرته للطبيعة وتفسيره المادي الديالكتيكي للواقع الموضوعي ومتغيراته، فسح مجالاً واسعاً للعلوم بأن تحقق قفزاتها النوعية اللاحقة.