النظرية الاستعمارية لـ«ما بعد الاستعمار»..!

النظرية الاستعمارية لـ«ما بعد الاستعمار»..!

تنتشر في الأوساط الأكاديمية العالمية، وبشكل سريع وواسع، نظرية جديدة هي نظرية ما بعد الاستعمار، أو Postcolonial Theory.. 

تركز النظرية على «خصوصية» مجتمعات البلدان الخارجة من الاستعمار، البلدان التي يصطلح على تسميتها بلدان العالم الثالث أحياناً، وأحياناً أخرى بلدان الجنوب الفقير، أو حتى بلدان الشرق، وغيرها من المصطلحات..

تحاول النظرية الجديدة استكمال العمل الذي قامت به مدرسة ما بعد الحداثة بالتوازي مع التنظيرات النيوليبرالية، وتنظيرات صراع الحضارات والدراسات الثقافية وغيرها، حيث تسعى إلى تكريس الفصل ضمن الظاهرة الرأسمالية العالمية نفسها، منحية العوامل الاقتصادية- الاجتماعية، ومبرزة العوامل الثقافية بوصفها عوامل حاسمة، بل وعوامل صراع وتفتيف على المستوى العالمي..

الخطير في المسألة، هو أنّ دعاة هذه النظرية يأتون بجزء هام منهم من خلفيات ماركسية ويدعون الانتصار لشعوب البلدان المستضعفة في وجه الرأسمالية الظالمة، ولكنهم وتحت هذه اليافطة، يعملون على تجريد هذه الشعوب نفسها من أهم أدواتها في النضال ضد الرأسمالية: الماركسية كسلاح فكري، أممية الطبقة العاملة ووحدة نضالها على المستوى العالمي، وصولاً إلى اقتطاع التطور التاريخي لهذه البلدان من سياقه الحقيقي، ووضعه ضمن إطار تخيلي ووهمي مبني على مفردات ثقافية متفرقة ومقطوعة عن نسقها التاريخي، بما يسمح بتعطيل إمكانيات تضامنها ووحدة صفها في مواجهة الرأسمالية نفسها..

فيما يلي تقدم «قاسيون» جزءاً من الترجمة الكاملة للمقابلة التي أجرتها مجلة اليعاقبة الأمريكية مع الباحث الماركسي فيفيك تشيبر على خلفية إصداره كتاباً جديداً بعنوان: How does the subaltern speak? والذي يقدم فيه نقداً بارعاً وعميقاً لنظرية ما بعد الاستعمار.. (الترجمة الكاملة موجودة على موقع قاسيون الالكتروني kassioun.org)

تكمن في قلب نظرية ما بعد الاستعمار فكرة تقول بعدم إمكانية تطبيق «التصنيفات الغربية» على مجتمعات ما بعد الاستعمار، كالهند مثلاً. على أي أساس تم بناء هذا الادعاء؟ 

قد يكون هذا الادعاء هو أكثر ما أنتجته الدراسات البوستكولونيالية أهمية وخطورة، وهو ما يجعل التركيز عليه ومعالجته مسألة شديدة الأهمية. 

لم يسبق، وخلال 150 عاماً الماضية، أن برزت منظومة أفكار «محسوبة على اليسار» من النوع الذي يصر على إنكار الأفكار العلمية حول طبيعة المجتمعات البشرية وصفاتها، ويصر تالياً على رفض قابلية تطبيق التصنيفات العامة التي أنتجها التنوير بشقيه الليبرالي والجذري، تصنيفات مثل، رأس المال، الديمقراطية، الليبرالية، العقلانية، الموضوعية. كان هنالك حقاً فلاسفة انتقدوا هذه التوجهات وهذه التصنيفات، ولكن نادراً ما كان لهؤلاء أية علاقة جدية بـ«اليسار». جماعة ما بعد الاستعمار هم أول من يرفض هذه التصنيفات باسم «اليسار».

تنطلق المحاججة حقاً من افتراض في علم الاجتماع هو التالي: لكي يكون للتصنيفات التي جاء بها الاقتصاد السياسي والتنوير قيمة حقيقية خارج «العالم الغربي»، فإنّ الرأسمالية ينبغي أن تكون ممتدة عبر العالم كلّه. وهذا ما يدعي «عالمية رأس المال» (universalization of capital).

تسير محاججتهم كالتالي: التصنيفات العالمية المرتبطة بأفكار التنوير، هي شرعية وصحيحة فقط بقدر ميل رأس المال نحو العالمية (الانتشار العالمي). ومنظرو ما بعد الاستعمار ينكرون حقيقة أن رأس المال قد انتشر بالفعل على مستوى العالم، بل وأكثر من ذلك يقولون أن رأس المال لا يملك أساساً القدرة على الانتشار حول العالم. وبما أنّ الرأسمالية لم ولن تصبح عالمية، فإنّ التصنيفات التي طورها أشخاص من أمثال ماركس لدراسة وفهم الرأسمالية هي الأخرى لا يمكن اعتبارها تصنيفات عالمية.

ما يعنيه ذلك بالنسبة لنظرية ما بعد الاستعمار هو أن تلك الأجزاء من العالم التي «فشل» رأس المال في الانتشار فيها، عليها أن تولد تصنيفاتها المحلية الخاصة. وما هو أكثر أهمية، أن ذلك يعني أن نظريات مثل الماركسية التي تحاول أن تنتج تصنيفات موحدة عامة في الاقتصاد السياسي، ليست خاطئة فقط، بل وهي أيضاً محكومة بالنزعة الأورومركزية، وليس ذلك فحسب، بل هي جزء من الدينامية الاستعمارية والإمبريالية الغربية!

ما الذي دفعك إلى التركيز على «دراسات المستضعفين»، subaltern studies، كمدخل وطريقة لانتقاد نظرية ما بعد الاستعمار؟

نظرية ما بعد الاستعمار هي جسد من الأفكار شديدة التنوع والانتشار. إنها بحق تطور لما يسمى «الدراسات الثقافية» و«الدراسات الأدبية»، ولها تأثيرها الراجع في هذه الحقول. انتشرت بعد ذلك عبر الدراسات المختصة بمجالات محددة «area studies»: التاريخ، والأنثروبولوجيا. انتشرت النظرية في هذه الحقول بسبب تأثير «النظرية الثقافية-cultural theory» الذي بدأ منذ الثمانينيات. ومع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات تسربت نظرية ما بعد الاستعمار بشكل كثيف إلى فروع مثل التاريخ، الأنثروبولوجيا، دراسات شرق المتوسط، ودراسات جنوب آسيا.

ولكي تناقش هذه النظرية، بات عليك مواجهة مشكلة أساسية: فلأنها شديدة الاتساع والتنوع، فمن الصعب تحديد وتثبيت أي المسائل ضمنها هي الأكثر جوهرية وأساسية. ولذلك فإنّ من الصعب أن تعرف تماماً ما الذي عليك أن تنتقده. وأيضاً، فإنّ المدافعين عنها لديهم إمكانية تفنيد ورفض الانتقادات بسهولة عبر الإشارة دائماً إلى جوانب أخرى من نظريتهم لم تعالجها في انتقادك، وسيقولون: ركزت على الجوانب الخطأ..

لذلك كلّه، كان علي أن أجد مكوناً ما، أساسياً وجوهرياً، للنظرية، خيطاً نظرياً ما، يربط بين مختلف «دراسات ما بعد الاستعمار»، ويكون ثابتاً متسقاً وعالي التأثير.. أردت كذلك أن أركز على تلك الجوانب من النظرية المتركزة حول التاريخ، التطور التاريخي، والبنى الاجتماعية.

«دراسات المستضعفين» أو subaltern studies تتناسب مع المعايير السابقة جميعها: فهي مؤثرة بشكل هائل في دراسات المناطق المحددة، متسقة داخلياً وثابتة، وتركز على التاريخ ودراسة البنى الاجتماعية. من الناحية النظرية، فإنّ «بوست كولونيال» كنظرية امتلكت قدرة عالية على التأثير، جزئياً بسبب تماسكها الداخلي، ولكن أيضاً لأنّ أهم مناصريها قد جاؤوا من خلفية ماركسية، وكانوا جميعهم متركزين في الهند أو في أجزاء أخرى من «العالم الثالث». هذا الأمر، أعطاهم قدراً كبيراً من «الشرعية» و«المصداقية» بوصفهم نقاداً للماركسية، وبوصفهم مؤسسين لطريقة جديدة في فهم «بلدان الجنوب». إنّ نظرية ما بعد الاستعمار باتت منتشرة ومحترمة لدى كثيرين، تحديداً بواسطة الأفكار التي اقترحها دارسو «المستضعفين»، والقائلة بفشل عالمية رأس المال والحاجة إلى تصنيفات محلية.

كيف يفسر منظرو «دراسات المستضعفين» حديثهم عن فشل عالمية رأس المال في بلدان ما بعد الاستعمار؟ ما هي الخصوصية التي تتمتع بها مجتمعات هذه البلدان والتي أعاقت عملية التطور الرأسمالي؟

تقدم «دراسات المستضعفين» حجتين متمايزتين حول كيف ولماذا تم اعتراض وإيقاف دينامية الانتشار العالمي لرأس المال؟ إحدى الحجتين هي تلك التي يقول بها راناجيت غوها Ranajit Guha.

يشترط غوها انتشار رأس المال عالمياً بعامل محدد هو بالذات قدرة البرجوازية، الطبقة الرأسمالية، على الإطاحة بالنظام الإقطاعي وبناء تحالف بين الطبقات يضم لا الرأسماليين والتجار فحسب، بل وأيضاً العمال والفلاحين. وعبر هذا التحالف (المصنع بطريقة خرقاء)، يفترض برأس المال أن ينشئ نظاماً سياسياً جديداً، نظاماً لا تكون وظيفته حماية الرأسماليين وملكياتهم الخاصة فقط، بل وعليه أن يكون نظاماً ليبرالياً، شاملاً وتوافقياً في الوقت نفسه. وعليه، فإنّ عالمية رأس المال، ولكي تصبح واقعاً بالنسبة إلى غوها، فإنها ينبغي أن تقترن بنشوء أو بزوغ طبقة رأسمالية تشيد نظاماً ليبرالياً توافقياً. هذا النظام يحل محل الحكم القديم، ويظهر كامتداد لعالمية رأس المال بتعبيره عن مصالح الرأسماليين بوصفها مصالح عالمية. رأس المال، كما يقول غوها، يحوز إمكانية التحدث باسم كامل المجتمع: فهو ليس مسيطراً فقط كطبقة، بل ومهيمناً أيضاً بحيث لا يحتاج لاستعمال العنف في الحفاظ على سلطته..!