تراث ثورة الحارث بن سريج
انت ثورة الحارث بن سريج حلقة أخرى من سلسلة الثورات التي عرفها التاريخ الإسلامي بكل عصوره والتي طالبت بالعدالة والمساواة ورفع جور الحكام الطغاة عن الناس، ولكن ما يجعل هذه الثورة حالة فريدة في التاريخ الإسلامي هو سعة أفقها وابتعادها عن الخلافات العقائدية والدينية من أجل تحقيق الهدف المشترك، فحققت بذلك أوسع جبهة ثورية عرفها التاريخ الإسلامي على الإطلاق، حيث لم تشمل فقط المسلمين على اختلاف طوائفهم أو العرب على تباين أنسابهم، بل شملت أيضاً الأعاجم وغير المسلمين سواء أكانوا من اتباع الديانات السماوية أو الوثنية.
كان الحارث بن سريج عربياً من بني تميم عاش في خراسان في آواخر العصر الأموي، ينسبه المؤرخون إلى فرقة «المرجئة» وهي فرقة بَدََّت الإيمان على العمل مما يجعل ظهور قائد ثوري من أوساطها أمرا مثيرا للاستغراب، إلا أن بعض المؤرخين المعاصرين يرون أن ابن سريج تبنى أفكار المرجئة في سبيل جمع أكبر قدر ممكن من الناس من مختلف الطوائف حول ثورته، ومن المعروف أن المرجئة رفضوا أن يطلقوا أحكاما قاطعة حول الصراعات بين الصحابة والخلافات العقائدية، وأرجؤوا البتَّ فيها إلى يوم القيامة حيث يحاسب الله جميع الناس بعلمه فيُعرف وقتها الحق من الباطل، ومن هنا جاء اسمهم : المرجئة.
كانت خراسان في زمن الحارث ترزح تحت وطأة جور ولاة الأمويين الذي عانى منه العرب والعجم والمسلمون وغير المسلمين على حد سواء، وبالإضافة إلى ذلك كانت هنالك الشعوب التي بقيت على دياناتها القديمة ورفضت أن تدين بالإسلام أو أن تدفع الجزية للدولة الإسلامية فاستحل الأمويون دماءها بسبب ذلك وارتكبوا في حقها الكثير من الممارسات الوحشية التي عارضها حتى بعض رجال الدين لأنها أخلت بأخلاقيات وأعراف الحرب لدى العرب سواء في الجاهلية أو في الإسلام.
أعلن الحارث ثورته في عام 116هـ وسرعان ما التف الناس حوله فكوّن جيشا قدره المؤرخون بـ60 ألف مقاتل خاض به المعارك الشرسة ضد قوات الوالي الأموي نصر بن سيار، وقد لاقت ثورته تعاطفا واسعا في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، فانضم إليه المتكلم الشهير جهم بن صفوان، مؤسس فرقة الجهمية الكلامية التي يعتبر أفرادها أسلافا للمعتزلة، الذي استشهد فيما بعد وهو يناضل في صفوف هذه الثورة، كما أرسل له الكميت بن زيد الأسدي «صاحب الهاشميات، ويعتبر شاعر الشيعة الاول والمتكلم باسمهم في ذلك العصر)» قصيده يحضه فيها على الثبات وعدم التهاون في مقاتلة الظالمين، ولم تلقَ هذه الثورة أية إدانة من قبل فقهاء السنة المعاصرين لها الذين كانوا لا يزالون متمسكين بمقاطعة سلاطين الجور ودعم الثورات المسلحة ضدهم، فلم تأت الإدانة لثورة الحارث إلا في عصور الإنحطاط اللاحقة، وقد تحالف ابن سريج أيضا مع ملوك الشعوب الوثنية التي عانت الامرَّين من ممارسات الامويين. ولعل الخوارج هم الفرقة الوحيدة التي رفضت التحالف مع الحارث رغم عدائهم الشديد للأمويين وكان ذلك بسبب تطرف هذه الفرقة وانغلاقها على ذاتها.
تعتبر ثورة الحارث بن سريج آخر ثورة قامت ضد الأمويين، وقد كانت عاملا هاما في زلزلة حكمهم ونهاية دولتهم، واستمرت المعارضة الإسلامية بعدها ضد الدولة العباسية ولكن دون أن تحقق ذلك التوحد والتجمع الصلب للمظلومين على اختلاف اعراقهم وأديانهم وطوائفهم ضد ظالميهم و لأجل العدالة والمساواة.
■ محمد سامي الكيال