تراث الأشعرية وتحطيم العقلانية الإسلامية

لم يلبث المجتمع الذي أنجب المعتزلة ( وقبلهم القدرية والجهمية ) أن فقد الكثير من حيويته وساد فيه الجمود والإنحطاط الفكري وعمته الردات السلفية، فأصبح تقبل المعتزلة صعباً، وهم الذين جعلوا من العقل الحكم الوحيد الذي يحق له الوصاية حتى على قضايا الإيمان والعقيدة، ولذلك فقد كان إطفاء شعلة فكرهم ضرورة لكل من أراد تحطيم العقلانية الإسلامية لمصلحة النقل وصنمية النص، وبما أن الأثر الذي تركه المعتزلة وعلماء الكلام كان أقوى من أن يتم تدميره بالسيف والقمع السلطوي فقط فقد كان لابد من تدمير عقلانيتهم من الداخل؛ أي استعمال الأدوات المنطقية التي أبدعوها ضدهم وضد الفكر العقلاني بشكل عام، تمهيدا لرمي هذه الأدوات فيما بعد والتخلص منها نهائيا. ومن هذا المنطلق ظهرت الأشعرية.

يمكننا الآن أن نفهم كيف أعلن، مؤسس الأشعرية، أبو الحسن الأشعري توبته بعد سنوات طويلة قضاها كمعتزلي، وكيف أحرق كل الكتب التي سبق له أن ألفها في الإعتزال وقرر أن يمضي بقية عمره في الرد على المعتزلة. فبرزت الأشعرية كتيار كلامي حاول أن يمنطق الاستغناء عن المنطق!!! وقدمت نفسها على أنها «مذهب وسط» بين المعتزلة وبين خصومهم من رجال الدين والفقهاء، وهم في الحقيقة لم يختلفوا عن عقلية هؤلاء الاخيرين إلا باستعمالهم لأدوات علم الكلام.

فردا على مسألتي الحرية الإنسانية، كون الإنسان مخيراً وخالقاً لأفعاله، والسببية في الطبيعة التي نادى بها المعتزلة ابتدع الأشاعرة نظرية «الكسب»: فالإنسان لا يمكن أن يُعطى صفة الخلق حتى فيما يتعلق بأفعاله، فالله فقط هو من يخلق الأفعال، والإنسان لا دور له إلا أن يكتسبها. ثم جردوا الطبيعة من فعلها فما دام الله خالقاً وحده لكل شيء فلاتوجد قوانين سببية في الطبيعة، ولا علة فيها تنتج معلولاً، وما نتوهم أنه قانون طبيعي ما هو إلا عادة خلقها الله وأجراها في العالم وبإمكانه أن يخل بها متى شاء.

وبعد الإنتصار الكبير الذي حققه المعتزلة للعقل من خلال قولهم بقدرته على معرفة الخير والشر، و استطاعته التمييز بين الفعل الحسن والفعل القبيح، من دون الحاجة إلى شريعة إلهية، وبالتالي فإن مناط التشريع الأخلاقي والاجتماعي هو العقل قبل الشرع (وهذه من أهم الأفكار العلمانية المنحدرة إلينا من تراثنا).. بعد هذا الإنتصار جاء الأشاعرة لينكروا قدرة العقل التشريعية، فالمعايير الأخلاقية والاجتماعية ومعرفة الحسن والقبيح أمور تخرج من دائرة العقل واختصاصاته ولاينظمها إلا الشرع، أما العقل فلاقدرة له إلا إدراك وجود الله.

كان ظهور الاشاعرة وانتشار فكرهم علامة فارقة تنذر ببدء انحدار الحضارة الإسلامية، وهو ما حصل فعلا بسيرورة متدرجة نزولاً، استمرت حتى انطفاء آخر مشاعل العقلانية الإسلامية، وكان من أهم تجلياتها أن الأشاعرة أنفسهم ورغم كل ما فعلوه من أجل التصدي للفكر المتنور لم يسلموا من عداء السلفيين وقمعهم، فمن المفارقات المضحكة المبكية في التاريخ أن الحكام السلاجقة ـ الذين عملوا بعد اجتياحهم لأراضي الدولة العربية الإسلامية وسيطرتهم على السلطة فيها على نشر الفكر السلفي الظلامي بقوة السيف ـ أمروا بإحراق كتب الأشاعرة وسط دهشة العديد من رجال الدين، ورغم أن الأشاعرة خدموا بأدوات علم الكلام قضية مشابهة للقضية التي خدمها السلاجقة بالحديد والنار، ويبدو أن ذنب الأشاعرة الوحيد في نظر أولئك السلفيين هو أنهم مارسوا ولو بالحد الادنى بعض العقلانية والتعقل!!!!

■ محمد سامي الكيال

آخر تعديل على الخميس, 24 تشرين2/نوفمبر 2016 14:09