في حضرة الخليل بن أحمد
تكن الشمس قد غربت بعد، عندما هاتفني صديقي عبد الله البلوشي في أحد أيام سنة 2001، إبان إقامتي في عُمان،وهو مسرحي معروف على مستوى السلطنة، كان اتصاله بغرض أن نلتقي مع صديق شاعر وحين طلبت منه تحديد مكان اللقاء رد قائلا:جانب مدرسة الخليل بن أحمد..
وهذه «ال..بن» مازالت مستخدمة في السلطنة، ولأننا تعودنا منذ صغرنا أن يكون منشأ أقطاب الفكر والأدب العربيين القدامى أو موتهم، في العراق أو الشام، فقد أوحى اسم المدرسة بأنه لأحد أفراد الأسرة المالكة، ولم يخطر لي أن المقصود هو الفراهيدي الذي كان مولده وموته في قرية عُمانية قبالة بحر العرب تدعى «ودّام الساحل»!! وحتى تكون المصادفة أكثر سروراً، كانت تلك القرية على مسافة عشر دقائق بالسيارة من مكان عملي. مع سطوع شمس اليوم التالي كانت قدماي تتسابقان باتجاه قبر الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم اللغة ومؤسس علم العروض.. لم يكن القبر محتفياً بعبقرية الرجل المنزوي فيه، ولا المقبرة أيضاً، ولم تكن تلك الزيارة الأخيرة، ففي كل مرة كنت أستحضر الفراهيدي وأحاوره على مهل، أن تعال وامسح معي تضاريس الشعر العربي الحديث من مشرق الشمس على قبرك المتواضع إلى مغيبها في تطوان .. كان صمته صمت العارف الغارق في ذروة الصبر.. وحتى أحثه على الكلام أخبرته بأني أكتب الشعر.. وأني أتوق في يوما أن أصبح فيه (شاعراً)، تململ الرجل أولاً، لكنه انتفض عندما أخبرته أني أكتب شعراً مازلنا مختلفين على انتمائه لأي ضرب من ضروب الأدب وعلى اسمه أيضاً.. فردّ بصوت ملؤه الوقار: هل تقصد أنكم تجاوزتم العروض في شعركم وقتلتم الموسيقى لصالح النثر؟ أجبته بأنّ هذا أول الغيث، لأنك يا سيدي أتيت بعد مولد الشعر العربي بثلاثة قرون .. و الفراهيدي القادم سيأتي،ربما، في فترة أقصر من مولد الحداثة الشعرية وسيعمل جاهداً على علم عروض أحدث مما ابتكرت لأنه مزود بالمعجزات. هل سمعت «بالنِت»؟ لكنها الموسيقى، بادرني الخليل، فأجبته: لكنها الحداثة يا سيدي هل تظن أن الزمن يعود أدراجه. عملتُ بوصيتك فقرأتُ الألوف من الأبيات الشعرية المقفاة وحفظت منها المئات وهاأنا أكتب بلا موسيقاك.. في أيامكم امتطيتم النوق فكانت مشيتها مسبارا يحدد جودة الشعر ووزنه، وفي أيامنا ركبنا الباص الذي يجعلك تكسر رتابة اللغة وتراتب الموسيقى.. فبادرني وهل يحمل شعركم قدسية ما وتحتفون به كما احتفى أجدادكم بشِعرهم .. فكان التحليل حاضراً هنا: سيدي الفراهيدي إنْ تركنا نسبية المُقَدّس جانبا فقد تولت الفضائيات مهرجانات الشعر وبدأت بتدهيم الشعر «من الدهماء» ونزعت عنه القداسة وانحدرت به إلى ما هو أتعس من الخلاعة.. وإن كنت تقصد بالمقدس علاقة الشعر والإيقاع بالتراتيل والنصوص الفوقيةـ ربما نسي أن الشعر و الفلسفة خرجا من رحم المعابدـ فعربُ اليوم عطّلوا الكثير من المقَدس حتى يقال عنهم «معتدلون».. أما نحن شعراء الأيام القادمة فنحاول جاهدين أن نمسك الشعر بمعناه المقدس من تلابيبه.. أما إن قصدت بالمقدس أن الشعر رافعة من روافع تقدم الأمة، فاطمئن لأن الشعراء تنحوا جانبا لصالح من يعمل على هدم البنى الرافعة للأمة التي من أهم دعائمها المقدس الذي يحمله مشروع وطني ..لا المقدس بمعناه المرعب الدافع للتدروش.. هذا إن لم يكن الشعراء أنفسهم قد ساهموا بذلك..ختم الرجل: ويأكلون التراث أكلاً لماً ويحبون المال حباً جماً، هل تعلم لماذا قال الله التراث ولم يقل الميراث.. أجبت أن لا!! فقال: أن تنهض بشعرك دون موسيقى خير ألف مرة من أن تشترك في وليمة فضائية تتلون بلون العار..