تراث ثورة القَََدَريّة

من بين كل الفرق التي ناهضت حكم الدولة الأموية تمتعت فرقة «القَدَريّة» بتميز خاص في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الحضارة الإسلامية، ففي غضون الصراع الدموي العنيف الذي خاضه الأمويون ضد خصومهم تبنوا غطاءً أيديولوجيا عبرعن فهم سلطوي ظلامي للإسلام تمثل بـ«الجبرية»، فلا يحق لأحد أن يحاسب الحكام على تصرفاتهم لأن الله هو الذي يخلق أفعال عباده وهو من كتبها في لوحه المحفوظ فأصبحت قضاءً وقدراً ليس أمام العبد إلا أن يمتثل له،

وهكذا فمهما كان رأي الناس بسياسات الحكام فهي تعبير عن إرادة الله المطلقة وقضائه وقدره. ومن هنا برزت القدرية كمعارضة فكرية للأيديولوجيا الأموية قامت على أساس أن الإنسان مخير وليس مسير، فهو خالق أفعاله والمسؤول عنها، وظلم الحكام ليس قدراً إلهياً لا راد له بل هو «قدر» صنعته فئة من الناس وباستطاعة الإنسان أن يقاومه باعتباره الصانع الوحيد للـ«القدر»، ومع نشأة القدرية على يد «معبد الجهني» تلميذ أبي ذر الغفاري نشأ علم الكلام الذي استمر فيما بعد ليصل إلى ذروة إزدهاره مع المعتزلة في العصر العباسي، قبل أن يظهر الأشعريون «الذين لا يزال فكرهم مسيطرا على العقل الديني حتى الآن» ليطفئوا نور علم الكلام والعقلانية الإسلامية التي وضع القدريون أول بذورها.

على عكس كل فرق المعارضة الأخرى لم يمتشق القدريون السيف ضد الأمويين، بل نشروا فكرهم بصورة سلمية وتمكنوا من التغلغل إلى داخل القصور الأموية و التأثير على بعض أمرائها، فكان أول من تأثر بهم الأمير معاوية بن يزيد الذي أصبح فيما بعد ثالث خلفاء بني أمية، والذي فضل أن يتنازل عن الخلافة بعد أشهر قليلة من تسلمها على أن يبقى على عرش غارق في دماء الضحايا، فما كان من الإسرة المالكة إلا أن قبضت على أستاذه القًدَري عمرو المقصوص وقتلته تحت التعذيب عقابا له على «إفساده» لأفكار الخليفة الجديد.

إلا أن التحرك الأكبر للقدرية كان في نهاية عهد الدولة الأموية، فرغم كل التنكيل الذي طالهم في عهود الخلفاء الأمويين المتعاقبين، استطاعوا أن يستميلوا إليهم الأمير يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي عرف فيما بعد باسم «يزيد الناقص»، وقد اجتمع القدريون في ضاحية المزة وأعلنوا تنصيب يزيد الناقص خليفة وخلع الخليفة الوليد الثاني، ثم استولوا على دمشق ونصبوا خليفتهم الجديد الذي استفتح عهده بخطاب رائع بسط فيه مبادئ حكمه التي تقوم على توزيع عادل للثروة، ووقف سياسة النهب المنظم التي مارسها الأمويون طيلة عهدهم، ودعوة الناس إلى محاسبته على تصرفاته وخلعه إذا أبدى إنحرافا عن هذه المبادئ.

كان استيلاء يزيد الناقص على السلطة كارثة للإسرة الأموية، إلا أنه لم يلبث أن توفي في ظروف غامضة بعد ستة أشهر فقط من توليه الحكم «والأغلب أن أسرته دست له السم»، وهكذا انتهى حكم القدرية قبل أن يتاح لهم تنفيذ وعودهم، وتم التنكيل بهم على يد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الذي قتل الكثيرين منهم، ونبش قبر يزيد الناقص، وصلب جثته ليكتب بذلك فصلاً دموياً آخر من الفصول التي اعتاد حكامنا كتابتها عبر تاريخنا الطويل.

وبعد هذه الضربة القاصمة خَفَتَ ذكر القدرية في كتب التاريخ، لتنتهي بذلك أول فرقة تنويرية في تاريخ الإسلام، ولتحتفظ الأجيال اللاحقة بذكرى ثورتها مرددة هذه الكلمات عن يزيد الناقص:

«يا مبذر الكنوز )أي يا من أخرجتها من القصور ووزعتها على الناس)، ويا سجادا بالأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة وعليهم حجة، أخذوك فصلبوك» «ابن قتيبة، عيون الأخبار»

 ■ محمد سامي الكيال