الفنان عزيز صليبا: أغني للإنسان، وهو يمشي على درب آلامه، وآماله
الأغنية وجهي الآخر، وهي الغيمة التي أتمنى ألا تغادر سماواتي وتظل تمطر على الروح المحاصرة باليباب، وهي البرهة الفاصلة بين نبضات القلب... بهذه الكلمات يختصر علاقته بالأغنية عموماً، وبالأغنية الآشورية السريانية على وجه التحديد... ولامبالغة هنا طالما إن كل مافي هذا الإنسان - الفنان عفويته، حزنه المزمن، أقواس القزح التي ترتسم وهو يحدثك عما يحب، آهاته وهو يحدثك عن مرارة الواقع، تماهي الذات لديه مع الآخر بغض النظر عن انتماء ذلك الآخر، كل ذلك يفيض بالأغاني.... في لقاء مع قاسيون يتحدث الفنان الآشوري السوري عزيز صليبا عن بداياته قائلاً:
لم تسمح لي الظروف المادية بمتابعة التعليم كغيري من أقراني في تلك المرحلة، ومنذ طفولتي كان لي علاقة خاصة مع الغناء، ارتمي في حضن الأغنية كلما باغتني الحزن، وكأن الأغنية هي أمي، كانت ملاذي الوحيد في واقع ينضح بالأسى، والحرمان، والقلق... وجدت نفسي أغني بمناسبة ودون مناسبة، وما زلت أتذكر الصفعة التي ضربها المعلم على وجهي وأنا أغني في مدرسة فارس الخوري بالقامشلي.. جدي الذي كان صديقاً للفنان الأرمني كره بيت خاجو، كان يقول لي باستمرار وأنا جالس على ركبتيه يجب أن تصبح مغنيا، والى الآن لا أعرف لماذا كان يصر على ذلك، قادتني الظروف إلى التنقل والسفر إلى السعودية للعمل، وبقيت فترة في حلب في عام 79، وهناك بدأ مشواري العملي في ميدان الفن، حيث غنيت في حفلات طلابية ومن الأسماء التي شجعتني آنذاك صديقي الحلبي، وحيد قهواتي الذي اقترح عليّ تعلم أصول الغناء... لم أدرس في مدرسة موسيقية عالية، وتجربتي الغنائية هي نتاج حبي الجنوني للغناء، ونتاج مدرسة الحياة بكل ما فيها من فرح، وآلام، وحب للبشر، وولعي بالتراث الغني لشعوب بلاد ما بين النهرين وخصوصاً تراتيل المعابد والأديرة سواء قبل المسيحية وبعدها التي ما زلت أستمد منها الكثير الكثير في تجربتي الغنائية.
* ما واقع الأغنية الآشورية في سورية اليوم؟
منذ العشرينات وجد على الساحة العديد ممن عملوا في هذا المجال، ومرت بفترات ذهبية، ولكن مع الأسف منذ بداية الثمانينات تراجع المستوى من حيث الألحان والكلمات نتيجة حالة القلق، وضغط الظروف المعيشية وما نتج عنهما من هجرة، وانشغال الناس بالهموم اليومية، تعيش الأغنية والفن عموما اليوم في حالة ركود وانكفاء..
* ما الذي يحفزك على الاستمرار إذا؟
الغيرة على الفن، والغيرة على التراث، وأنا لا أعني هنا التراث الآشوري فقط بل تراث أبناء كل الأقليات في الجزيرة، كثيرا من الأمم (الهنود، واليونان مثلا) استقت الألحان من هنا، ولكن مع الأسف لا نجد من يهتم من الجهات الرسمية، إلى الآن المنابر الرسمية الحكومية مغلقة في وجه هؤلاء الفنانين، وهذا ما يؤثر على عطاء الفنان، وهذا ما يؤثر سلبا على تطور عموم الثقافة الوطنية السورية، يجب أن يكون المجال مفتوحا حتى يسمع كل أبناء الشعب السوري الألحان الآشورية، والأرمنية والكردية وغيرها.. فهذه الثقافات هي روافد رئيسية لنسق الثقافة الوطنية، تغتني بها وتتكامل معها، وهي عامل إغناء للثقافة الإنسانية عامة.
* ما العلاقة بين هذه الثقافات؟
لا شك هي علاقة تكامل، فكل هذه الثقافات مستمدة من نهر واحد أو نهرين، فأنا استمتع جدا بأنواع من الغناء الأرمني، وأرتاح لمحمد شيخو الفنان، ومعجب بشفان، وعدا عن ذلك عندما حاولت بعض الأوساط الكنسية منع الغناء باللغة التي تحدث بها السيد المسيح غنى بعض أبناء شعبنا السرياني بلغة القوميات المتعايشة معها.. عموما الموسيقا لغة عالمية، وهي إحدى التعبيرات عن الذات الإنسانية - مشاعره، وأحاسيسه، وأحلامه، وآماله – والفنان الحقيقي ينتمي إلى كل الناس، وإن كان يغني بلغة قومية محددة ، فأنا اغني باللغة السريانية أو الآشورية وهي هويتي، أنا أغني بلغتي، ومن خلالها أعبر عن ثقافة وقيم وتقاليد شعبي التي هي جزء مكمل للثقافات الأخرى؟
* من أين تستمد مواضيع أغانيك؟
كما أسلفت أتكئ على التراث كثيراً، وألتقط أيضا نماذج من حياتنا اليومية المعاشة أغني لذاك القرويّ البسيط الذي يحب الناس ويفرح إذا فرحوا، ويبكي معهم.. أغني للأمهات اللواتي تخبئن في قلوبهن أساطير من الحزن على غياب الأبناء في المهاجر والمغتربات، أغني لذلك الشاب الذي يريد أن يبني حدائق معلقة أخرى لأحبته، أغني للصبايا اللواتي خذلهنّ الخابور بعد أن جف ولم يترك لهن فسحات للحب، باختصار أغني للإنسان، وهو يمشي على درب آلامه، وآماله.
* ماذا عن إدخال الآلات والتقنيات الغربية في الأغنية الشرقية كما هي عادة بعض الفنانين؟
التطور سمة الحياة، ومنها الموسيقى، ولكن يجب أن نحافظ على ماهو خاص، فعندما أمحو ذاتي لن أقدم شيئا لأحد.. أقصد يجب الحفاظ على نكهة الأغنية وروحها، ولا ضير من استخدام أي شيء ضمن هذا الشرط كما أعتقد، وأتمنى من الجميع العمل معاً كي تبقى الأغنية في كامل تألقها ونقائها..