محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

تراث عندما تنطق النُّصوص

وسط غبار معركة «صفين» الشهيرة والمترسخة في الوعي التاريخي الشعبي برز مشهدٌ جديد لم يكن مألوفا لدى المسلمين حتى ذلك العهد، فقد رأى المحاربون الذين أنهكهم القتال عددا من المصاحف المرفوعة على أسنة الرماح والسيوف مع صرخات تدعو إلى تحكيم كتاب الله في الخلاف الحاصل بين الطرفين المتحاربين، وقد أثار ذلك المشهد وتلك الدعوة الكثير من البلبلة والارتباك في نفوس كل من شهدوا تلك الواقعة.

لا يعنينا هنا المغزى السياسي- التاريخي لتلك الحادثة، كما أنه ليس من مهمتنا أن نعطي أحكاما أخلاقية قيمية عنها، فما يهمنا في المقام الأول هو أن نطرح المزيد من الاسئلة على العقل العربي الإسلامي من خلال تنقيبنا في الطبقات المعرفية التي كونته تاريخيا، والسؤال الذي سنطرحه هذه المرة هو: كيف نشأ مفهوم النص المقدس الذي يملك القدرة على النطق والتحكيم في قضايا الخلاف السياسي والاجتماعي التي هي قضايا دنيوية بطبعها وبنيتها العميقة؟

في فترة الانشقاق الكبير والنزاع الدامي التي يحلو للمؤرخين الكلاسيكيين تسميتها بـ«الفتنة الكبرى»، خاض المسلمون صراعهم السياسي  تحت مختلف الشعارات والتبريرات الأيديولوجية ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على اعتبار نفسه ممثلا لشرعية المقدس، فقد كان المسلمون يعرفون جيدا أن مؤسسة الخلافة التي نشأ النزاع حولها كانت مؤسسة سياسية زمنية ظهرت بُعيد مؤتمر سياسي ( مؤتمر سقيفة بني ساعدة) لعبت التوازنات السياسية والقَبَلية الدور الأكبر في تكوينه وتوجيه قرراته، وهكذا فلم تعتبر تلك المؤسسة في مجال عمل وفعالية النصوص المقدسة مع غياب نص قطعي وواضح ومتفق عليه حولها، وقد فهم الجميع أن الصراع على السلطة وتسييرها هو صراع سياسي دنيوي بالدرجة الأولى.

ماحدث في موقعة صفين كان نقلاً للصراع من مجاله الخاص المتعارف عليه وإقحاماً له في مجال آخر جديد: مجال النص المقدس، وقد أحدثت دعوة التحكيم انقساماً في معسكر أنصار علي بن أبي طالب، وأثارت حماس الكثير من المؤمنين البسطاء، ولكنها لم تنطلِ على رجل دين وسياسة محنك كعلي الذي حذر أنصاره من الانجرار وراء هذه الدعوة، ووضح لهم مدى خرافة مفهوم تحكيم النص الديني في القضايا السياسية والاجتماعية العامة بمقولة رائعة يبدو أن هنالك تعتيماً متعمداً عليها في أيامنا هذه من السلطات الدينية، فالقرآن حسب رأي الإمام علي «إنما هو خطٌ مسطورٌ بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال»، فقد أدرك عليٌ أن تحكيم القرآن ماهو إلا تحكيمٌ للرجال، وأن المسألة ستنتهي إلى استنطاق القرآن أيديولوجيا، فما كان سابقا يظهر بمظهر السياسي والأيديولوجي سيطلى من الآن فصاعدا بهالة من القداسة، وسيدخل الدين في خانة الاستثمار السياسي.

كانت مسألة تحكيم النصوص ضربة قوية أصابت العقل الإسلامي عندما كان في مرحلة تكوينه الجنيني، فقد سقط العقل من وقتها في خانة التبعية الكاملة للنص، وتم القضاء على استقلاليته ضمن مجالات فعاليته الخاصة، وسُيس الدين بشكل عنيف، واستغل في تشكيل الخطاب القمعي للسلطات الحاكمة، فبعد أن نجحت تلك الحيلة في تفتيت معسكر أنصار علي بن أبي طالب قام الحكم الأموي باستغلال مبدأ تحكيم النصوص (عن طريق التأويل الأيديولوجي) لفرض الفكر الجبري الظلامي الذي ألغى فعالية الإنسان وسببية الطبيعة، ليكمل الأشاعرة تلك المسيرة فيما بعد، قبل أن يسقط العقل الإسلامي بالضربة القاضية على يد الغزالي المدعَّمة بسيوف السلاجقة، ويصل إلى قمة انحطاطه بفضل ابن تيمية في العصر المملوكي، وليجد ذلك الانحطاط في العصر الحديث أيديولوجيته المعاصرة في فكر أبي العلى المودودي وسيد قطب اللذين نظَّرا لمبدأ «الحاكمية» الذي ترفعه الجماعات الإسلامية المتطرفة في أيامنا.

أما التيار الآخر الذي بدأ مع علي بن أبي طالب بوعيه الفطري غير المفلسف لخطورة تلك القضية، فقد بذل أعلامه جهوداً جبارة لتخليص العقل الإسلامي من ذلك القيد المبكر، واستطاعوا أن يصنعوا فترة النهضة والتنوير في تاريخ الحضارة الإسلامية مع ازدهار الفلسفة وعلم الكلام المعتزلي وغيرهما من العلوم العقلية، قبل أن يُقمعوا بسيوف السلطة، ليتحول التنوير (وحتى أيامنا هذه) إلى جزر صغيرة معزولة ومقموعة بأيديولوجيا الحاكمية.. والتحكيم . 

 ■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.