سرديات لتزجية الوقت (4 ) عندما راح التلفزيون يسجّل كل مانقوله
لا أعرف لماذا يسمي عمي الذي يسكن في الشام سيارته: البيجو ستيشن. عندما يأتي إلى الضيعة في الإجازات، لا يتخلى عنها. وكلما سأل جدي عنه، تقول له: إنه طوال النهار يخيّل على البيجو.
لم أعد أحب عمي كثيراً، فهو لم يحب تلفزيوننا كما كنت أتوقعً، وعندما دعاه جدي ليدخل إلى بيتنا ويشاهد غوار الذي سيأتي بعد قليل، بدا عمي غير مكترث، وظل واقفاً على الباب.. وقال إنه شاهد غوار من سنتين على التلفزيون الأردني. خطر على بالي أن أساله ما التلفزيون الأردني، لكنني لم أفعل.. فأنا لم أعد أحبه. ثم أخبر جدي أنه رأى غوار شخصياً، فسأله جدي: هل ذهبت إلى حاراتهم؟ قال عمي: لا. وقال كلاماً كثيراً لم أفهم منه شيئاً..
في اليوم التالي، قلت للتلاميذ في الصف: إن عمي ذهب إلى حارة غوار، ورأى أبو عنتر وياسينو، وحسني، وفطوم حيس بيس. وأخبرتهم أن عمي الذي أحبه كثيراً سيأخذنا جميعاً في البيجو ستيشن إلى حارة غوار..
أصبحت أمي تتكلم بالمصري. تقول لجارتها: أزيّك؟! وصارت في كثير من الأحيان، تقول: متشكرة خالص. بعد عرس قريبي حاتم بثلاثة أيام أخذوه. سألت أمي: إلى أين أخذوه؟ قالت بامتعاض وحسرة: أخذوه إلى شهر العسل. أبي لا يحب الميوعة، ولا يحب اللهجة المصرية، قال: أخذوه إلى بيت خالتو..
بعد شهور، جاء أهل نهلة زوجة حاتم كي يأخذوها، فصارت أمي تبكي. سألت أبي: لماذا لا يعود حاتم من بيت خالته. لم يقل أبي شيئاً. فقالت أمي: خالته –الله يهدها- لا تتركه يعود!. ثم جاء عمي وزمر بسيارة البيجو، وعندما دخل، سأله جدي: هل من الممكن أن يعود حاتم؟ وفكرت أن عمي يعرف خالة حاتم، وقد يذهب الآن هو وجدي بالسيارة (ويأخذاني معهم) ويأتيان بحاتم. قال عمي: مثله كثير، والأحسن ألا نتدخل. بعد قليل جاءت نشرة الأخبار، فبصق جدي على الشاشة. تغيرت ملامح عمي، وأخبر الجميع ألا يتكلموا بالقرب من التلفزيون، لأن التلفزيون يسمعهم ويسجل كل شيء. نظر جدي باستغراب: معقول! جدتي قالت: كل شيء معقول، إنهم ألعن من الجان. ثم طلب جدي مني أن أرفع صوت التلفزيون قليلاً، لنشوف ماذا يكذبون، واستدرك بسرعة كأنه تذكر شيئاً، وقال بصوت عالٍ كأنه يكلم التلفزيون: الله يهزم الخونة، الله يخرب بيوتهم!. ثم سيطر صمت ثقيل..
علم جميع الذين يأتون للسهرة عندنا أن التلفزيون يسجل كل شيء، وظهر على وجوههم الخوف. لم يعودوا يكتمون صوت التلفزيون.. عندما تأتي نشرة الأخبار، بل صاروا يتكلمون بصوت أعلى من العادة، ويسبون ويشتمون الخونة، وصاروا يدعون أن تنتصر الحكومة. كانوا يقولون ذلك بطريقة يبدون فيها أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض، بل مع التلفزيون نفسه. سألتْ أمي أبي بصوت منخفض، هل يسمع التلفزيون وهو مطفأ؟ قال لها: يسمع.. وشو يعني، ما عندنا شيء مخبأ! وهز رأسه، وكان حريصاً ألا يراه التلفزيون: أنْ نعم يسمع وهو مطفأ. قالت أمي بتذمر: من أين جبت لنا هذه اللعنة؟!..
توقفت أمي عن الكلام باللهجة المصرية، ولم تعد تنادي أخي حمود بـ: حمادا، على الطريقة المصرية. وقال أبي إنه سيبيع التلفزيون، فشعرت بحزن شديد..
لم يبع أبي التلفزيون، وحافظت على مشاهدة برامج الأطفال بفرح كبير، حتى وإن كان يسمع فمالي والكبار. مرة، لم يكن أحد في البيت، فتحت التلفزيون، ورأيت في لمحة سريعة محمد علي كلاي الذي يحبه أبي كثيراً، وقال عنه: إنه بطل!. اقتربت من التلفزيون، وقلت بصوت مرتفع كي يسمعني تماماً. يللا.. اعرض محمد علي كلاي لمدة ساعة، بدي أصير بطل مثله. انتظرت قليلاً ولم يحصل شيء، ثم فعلت ذلك ثانية بلا فائدة، وثالثة.. ثم اقتنعت أن التلفزيون لا يريدني أن أصبح بطلاً..