من التراث ميلاد الإنسان في التراث الإسلامي

يعترض الكثير من الباحثين على الحديث عن نزعة إنسانية في التراث الإسلامي، على أساس أن عبارة «النزعة الإنسانية» (HUMANISM) كمصطلح تاريخي مخصوص قد ارتبطت إرتباطاً عضوياً بالسياق التاريخي والحضاري الغربي، فهي تدل على حركة فكرية وأدبية  واضحة المعالم والمسارات ظهرت في أوروبا عند نهاية القرون الوسطى وبلغت أوجها في عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، وقد وضعت هذه الحركة الإنسان وقضاياه في مركز الاهتمام الفكري والثقافي، بعد أن كانت كل الفنون والآداب والفلسفات في العصور الوسطى قد كرَّست نفسها لخدمة قضايا اللاهوت ومسائله.

فقام رواد النزعة الإنسانية بالاستعانة بالتراثين الإغريقي والروماني بإعادة الإعتبار للإنسان الذي طالما أحتقره التراث الكنسي القروسطي، ومجَّدوا جسده وعقله وإرادته، واعتبروه الصانع الأساسي للتاريخ، القادر على صياغة مستقبل أفضل لنفسه في حال استطاع تحرير مواهبه وقدراته الإبداعية من كل قيد. فأصبح الإنسان هو المقياس والحكم في كل القضايا، بعد ان كانت مهمته الوحيدة هي تطبيق التعاليم الإلهية، والتقيد بالاحكام والمقاييس الدينية. هكذا كانت النزعة الإنسانية ميلاداً جديداًُ للإنسان على مستوى الخطاب الفكري والممارسة العملية، وقد استمرت قوية ومؤثرة طوال قرون، وكانت أساساً لكل الفتوح الفكرية والحضارية التي تحققت في الغرب في العصور الحديثة، ثم بدأت تتعرض لبعض الانتقادات من جهة التيارات الفلسفية مابعد الحداثية التي ظهرت في القرن العشرين، بعد أن تبددت الكثير من وعودها وآمالها ، لينتهي الأمر بالإعلان المدوي عن «موت الإنسان» الذي أطلقه الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو.

وبعيداً عن كل هذه الصراعات الفكرية الكبيرة التي يشهدها الفكر الغربي المعاصر، ربما كان من المشروع لنا ان نبحث عن نزعة إنسانية في التاريخ الإسلامي الذي يرى البعض أن الإنسان قد مات فيه قبل أن يولد، وهو التصور الذي كرسته الدراسات الاستشراقية التقليدية من جهة، والفكر السلفي الظلامي من جهة أخرى، حيث اتفق الطرفان على أن الحضارة الإسلامية لم تحتفي بالإنسان لغلبة النزعة اللاهوتية الغيبية فيها، حيث وضع الإنسان في تلك الحضارة نفسه دائماً في خدمة مطلقات مفارقة له، ولم يشغل إلا مكانة هامشية في إنتاجها الفكري والثقافي.

وبالضد من هذا التصور يمكننا أن نلاحظ بوادر أنسنة شاملة للإنتاج الثقافي الإسلامي ظهرت مع بداية عصر النهضة الحضارية الإسلامية في العهد العباسي، ووصلت إلى ذروتها في عهد تغلب القادة البويهيين على الخلافة العباسية، حيث حرص الخلفاء العباسييون ومن بعدهم القادة البويهييون (الذين يمكن تشبييهم بآل مديتشي أمراء مدينة فلورنسا الذين دعموا الحركة الإنسانية والنهضة الأوروبية بشكل عام) على إنماء أنماط من العلوم والآداب والفلسفات تحت غطاء سلطتهم، تُعنى بالبحث في قضايا وهموم الإنسان، وإحلاله مكانةً مركزية في سياق اهتماتها. بل ويمكننا إرجاع نزعة الأنسنة إلى نهايات العصر الاموي وبدايات العصر العباسي الأول، حيث تجلت بالانجاز الكبير الذي حققته مدرسة الرأي الفقهية (التي نشأت في مدينة الكوفة، وكان من أهم أعلامها ربيعة الرأي والإمام أبو حنيفة النعمان) في أنسنة التشريع الإسلامي إذا صح التعبير، حيث يمكننا القول أنها وضعت الأحكام الشرعية في خدمة الإنسان، بدلاً من ان يكون الإنسان في خدمة تلك الأحكام كما ساد في الكثير من المدارس الفقهية الأخرى، وجعلت الرأي الإنساني (وبالتالي العقل الإنساني) واحداً من أهم مصادر التشريع، إن لم يكن أهمها فعلاً.

ورغم كل ذلك فإن نزعة الأنسنة الإسلامية بقيت مرتبطة بشدة باللاهوت والنص المقدس، فلم تستطع أن تشكل نزعةً إنسانية صافية تحقق نوعاً من القطيعة المعرفية مع الفكر اللاهوتي ماقبل الإنساني كما فعلت النزعة الإنسانية في الغرب. ولعل الاستثناء الأهم كان في ميدان النثر الأدبي، فهو الميدان الوحيد الذي استطاع فيه الفكر الإسلامي أن يوصل نزعته الإنسانية إلى مداها الأبعد.  

وقد تحقق هذا بشكل أساسي على يد ثلاثة من كبار الأدباء والمفكرين، وهم: ابن المقفع والجاحظ وأبو حيان التوحيدي، وبالعجالة التي يفرضها علينا ضيق الحيز نقول أن ابن المقفع هو أول أديب ومفكر إنساني في التراث الإسلامي، وقد تجلى إنجازه بالدرجة الاولى في أنسنة المباحث السياسية والأخلاقية في الفكر الإسلامي، حيث فصل هذه المباحث لأول مرة عن الميدان الديني وجعلها متمحورة تماماً حول الإنسان. ولعل حيوانات كتاب «كليلة ودمنة» هي من أكثر الشخصيات الأدبية التراثية إنسانيةً!! أما الجاحظ فيمكننا أن نقارنه دون تحرج بالأدباء الإنسانيين الأوربيين الكبار أمثال بترارك ورابليه وإيرازموس، حيث استطاع بحسه الأدبي المرهف ونزعنه النقدية اللاذعة أن يقدم صوراً حيةً وواقعيةً لحياة مجتمعه وواقع الإنسان فيه، مؤسساً لنثر عربي مؤنسن مختلف عن أنماط النثر السابقة المتأثرة بالبنى الاسطورية والدينية. ووصلت النزعة الإنسانية النقدية إلى ذروتها الأعلى على يد أبو حيان التوحيدي صاحب المقولة الشهيرة: «وأوسع من هذا الفضاء حديث الإنسان، فإن الإنسان قد أشكل عليه الإنسان». وبهذا الإتجاه الإنساني الواضح تحول نثر التوحيدي إلى محاكمة لعصره تطالب بالتغيير.... التغيير بالإنسان وللإنسان. إلا أن تطور النزعة الإنسانية الإسلامية قد توقف بعد عصر التوحيدي، حيث بدأت سيرورة  انحدار الحضارة الإسلامية، لتنتهي بذلك إحدى أهم المنجزات الحضارية الإسلامية.

محمد سامي الكيالي

آخر تعديل على السبت, 26 تشرين2/نوفمبر 2016 22:45