المأزومون بالهزائم..
هناك، قرب ظلِّ المدينة التي انكسرت أعمدة بيوتها. بالقرب من أخر صاروخ سقط قبل قليلٍ، كان الجند يستجوبون الليل، عمن عبر فيه مقاتلاً، أو هارباً من حرب تحدث دوماً في بلادنا. فقد كان الانفجار العظيم، يتكرر في اللحظة ألف مرة، بحثاً عن روح لا زالت ترتدي جسدا، ويشعل مدفأة لبشرٍ لا يأبهون في البرد. يشعل ألف حريقٍ، وألف محرقة.
هناك، على بعد خطوات من حفرةٍ كانت مكانها شجرة، حيث كنت ألعب تحتها طفلاً، أقدم الجند على إعدام «ثلاثة مدنيين»، بشهادة إحدى نساء الحي، أو ما تبقى منه، فقد أخرجوهم من بيوتهم بثياب النوم، وأطلقوا عليهم النار، ربما بقصد التسلية، أو كما يقولون، لدفع خطرٍ قد يحدث.
ليس للموت دوماً أسباب منطقية لدى القاتل، قد يكون القتل أحيانا لدواعيٍ دينية، أو لدواعٍ عبرية، أو من غير داعِ... أو ربما لدواعي يعتبرها العالم مشروعة ضمن الحرب ضد الإرهاب.
وهنا، بالقرب من قبر جندي عربي قاتل قبل ستين عاماً، قال لي جدي: إنه قاتل ببسالة دفاعاً عن أرضه يعرفها ولا تعرفه، جاء يعرّفها بنفسه كفارس رأى بالقرب من طريقه امرأة فاتنة، فاستعرض بفرسه أمامها، لكن سبقت طلقات من الخلف، فهوى لتحتضنه المرأة الأرض، بالقرب من قبره الذي كان قد مروا...
لم يلقِ أحدُ من العابرينَ السلامَ على هذا الراقد من غير سلامٍ حين حضروا، توقف أحد الجنود قرب شجرة الياسمين الأبيض التي زرعناها يوماً، و»بال» على الشجرة، لم يقل أحدٌ في الإذاعات العربية والأجنبية أن الجنود الإسرائيليين أو الفلسطينيين الذين دربتهم الدول العربية لقمع شعبهم يبولون على زهر الياسمين والعشب الأخضر، ولم يصنف أحد هذا الفعل إرهاباً.
فهكذا يلقي الأعداء التحية على القتلى والمقاتلين. أو هكذا يلقي هذا النوع من الأعداء تحياتهم، ويضيف أحد المواطنين العاديين، كنا بعدوٍ واحد، صرنا اليوم بعدوين، أحدهم يقتلنا والثاني يبرر له فعلته، لم يجرؤ على التصريح بأن العدو الجديد هو أيضاً فلسطيني من أبناء جلدته لأن أجهزة الأمن تنتشر في كل مكان وتمارس مهمتها بشكل ممتاز رغم القصف والقتل والفوضى.
ليس المنتصر دوماً يفعل ذلك، قد يفعلها أيضاً المتأزمون بالهزائم، ولا يرتكب المذابح سوى الجندي الذي يخلع إنسانيته، كما يخلع ثيابه العادية، ليرتدي البزة العسكرية، أو الذي يزيل أخلاقه كما يحلق لحيته بالشفرة الحادة كل صباح.
حدثني مصابٌ نجا معي، حين التجأنا لإحدى الأحراش القريبة من المذبحة، بأن جنوداً دخلوا بيته، وأطلقوا النار على رأس المُسن العاجز، وأضاف: لقدا كانوا يحاولون السطو على ذاكرته، إنهم يسرقون الذاكرة، بعد أن سرقوا الأرض والزهور وروح الإنسان والحلم.
في صباح اليوم التالي، كانت الإذاعات تستعرض زيارة الرئيس الأمريكي لإحدى الدول»الشقيقة أو»الصديقة»، ومبادرة السلام العربية والأخرى الإسلامية، وشجب الأمين العام للأمم المتحدة لامتلاك إيران لسلاحٍ نووي، وذكرت خبراً صغيراً حول عددٍ من القتلى الفلسطينيين قد سقطوا بدفاعٍ مشروع عن النفس «إسرائيلي» لم يتجاوز المائتين. وبررت المذيعة بأن قذائف يدوية الصنع ربما كانت ستصنّع في تلك القرية، وربما يحاول عرب إرهابيون فلسطينيون إطلاقها على حدود إسرائيل... لم يعلق الأمين العام للأمم المتحدة على الموضوع فالقتلى لم يتجاوزا المائتين فلماذا يعلق، الرقم صغير مقارنة مع أعداد أخرى في أماكن أخرى بالعالم.
الرئيس الفلسطيني الذي كان يجلس في المؤتمر الدولي «الأمريكي» في قاعدة أمريكية لسلاح الجو، استنكر ما أسماها «التصرفات اللاشرعية» التي تقوم بها حركة حماس الإسلامية في غزة ضد المدنيين. ربما لم يخبره أحد بما حدث، أو أنه لا يريد أن يفضح الدم الفلسطيني، ويعكر به صفو المؤتمر الدولي للرفاه، أو ربما لم يشأ أن يوقف تدفق الاستثمارات الأجنبية للضفة الغربية التي يتولى ابنه المشاركة الفاعلة فيها، فـ «بالرفاه والبنين» حضرة الرئيس، فدم أكثر من مائة فلسطيني سقطوا بغزة ليست أكثر من تعداد رقمي لا تؤثر بمجمل الأرقام التي يستعد لجنيها ابنكم الموقر.
الرجالُ الجالسون قرب محلٍ تجاري قبالة شاطئ غزة، قتلتهم بقصف جوي، طائرة إسرائيلية أرادت تجريب سلاحٍ حربي جديد، جاء هدية لإسرائيل من المملكة المتحدة الصديقة، مما أسعد المشاركين البريطانيين في مؤتمر السلام الدولي، فقد كان السلاح فعالاً، وتفخر به الترسانة العسكرية البريطانية بعد أن أثبت فعاليته في قتل الإرهابيين، وفي حربه ضد الإرهاب.
الذين اختبئوا من القصف العشوائي للطائرات الإسرائيلية في بيت حانون وخان يونس وجباليا، لم يتمكنوا من متابعة أخبار المؤتمر الدولي للسلام أو مؤتمر الدول الإسلامية، أو مؤتمر القمة القادم في دمشق، لأن إسرائيل قررت قطع الكهرباء عن قطاع غزة لوجود إرهابيين خطرين على الدولتين العربية واليهودية في ما كانت تسمى «فلسطين»، وصارت اليوم ثلاث دول إحداها إرهابية خارج خارطة التفاهم الدولي.
فلماذا يهتم هذا العالم بعددٍ من القتلى الفلسطينيين لم يصلوا المائتين في أسبوع؟ طالما هنالك مؤتمرات للسلام في كل المنطقة برعاية أمريكية، وهنالك قمم عربية فلسطينية إسرائيلية في القدس؟ أليست القمة أهم بكثير من مجرد رعاع يقتلون فقط لأجل التسلية؟ ألم تقر أمريكا قانوناً جديداً في بعض ولاياتها يُشجع مواطنيها على مهنة الصيد؟ أليس هذا صيداً من نوع أخر يتم التشجيع عليه؟
* كاتب وصحفي فلسطيني
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.